اتفاقية الحدود العثمانية المصرية 1906

خريطة الحدود بين مصر والدولة العثمانية في أكتوبر 1906، في أعقاب التوقيع على الاتفاقية.

اتفاقية الحدود العثمانية المصرية 1906 أو اتفاقية ترسيم الحدود الشرقية البرية لمصر، هي اتفاقية بين الدولة العثمانية ومصر، وُقعت في رفح في 1 أكتوبر 1906، رُسِّمت بموجبها الحدود بين سيناء المصرية وولايتي الحجاز والقدس العثمانيتين. ولأن مصر كانت لا تزال اسمياً تحت سلطة الدولة العثمانية، لكنها تخضع للاحتلال البريطاني، وُصف هذا الخط بأنه حدود إدارية داخلية. وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبح هذا الخط الحدود الدولية بين مصر وفلسطين الانتدابية.


خلفية

بعد بدء مشروع محمد علي خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأت العلاقة بين ولاية مصر والدولة العثمانية في التفكك والتحلل مقابل بناء مصر كدولة حديثة ذات توجهات مختلفة.[1]

تلك التوجهات التي اختلفت حولها الآراء والاجتهادات الفكرية، حيث انقسمت هذه الاجتهادات إلى ثلاث مدارس، فمدرسة تضع هذه التجربة داخل المنظومة العثمانية، على أساسا أنها حركة اصلاح داخل الامبراطورية المتهالكة ومدرسة ثانية تنظر لهذه التجربة في سياق التاريخ المصري باعتبار الفكر الاستراتيجي المصري الذي يتجه دائماً إلى المشرق، والمدرسة الثالثة اعتمدت الفكرة العربية باعتبارها العامل الأساسي المشترك بين مصر ومحيطها العربي الشرقي، أي أن العروبة والخصوصية هي قوام هذه التجربة.

لاشك في أن كل مدرسة من المدارس الفكرية الثلاث قدمت أدلتها وبراهينها لتأكيد صدقية اجتهادها، ولكن هذه الدراسة ترجح إلى أنها تجربة في سياق التاريخ المصري، اعتمادا على البعد الاستراتيجي الطبيعي والمتصل بلا موانع طبيعية أو عوائق مانعة، مما يؤهل هذه الامتدادات إلى اعادة التجمع والتكاتل بتوجهات مختلفة ولكنها تنبع من خصوصياتها الثقافية والجغرافية، أي أن الفكرة الأساسية هي أن الجناح الشرقي العربي بلا حدود، وهو كتلة جغرافية ماتصل، ومحيط ثقافي له خصوصية تؤهله لتكوين امبراطورية عربية نواتها مصر منفصلا عن الكيان العثماني الهائل متعدد الاعراق واللغات.

كان هذا الهدف العظيم لباشا مصر هو أهم ما يؤرق حكومة لندن حيث أنه يتعارض مع مصالحها لعليا في المنطقة، مع هدفها الآني وهو المحافظة على السلامة الاقليمية للدولة العثمانية. ويمكن التدليل على ذلك:

  • دور بريطانيا في تصفية دولة عصرية مصرية-عربية في الشام وانهاء دور مصر العربي.
  • تحجيم دور مصر بتسوية 1840-1841.

بمعنى أن بريطانيا والقوى الاوروبية فرضت على محمد علي التسوية، الأولى خاصة بمصر وبها بعض المزايا لأسرته، وقد سبق الاشارة إليها باستفاضة، والثانية كانت في ظاهرها تحقيق خروج محمد علي من سوريا، أي لفك ضلعي الزاوية المصرية-السورية، وحصر مصر داخل الحدود المصرية وراء سيناء.

إن تجربة محمد علي نبهت حكومة لندن إلى خطورتها على المصالح البريطانية العليا، لذا اتبعت سياسة:

  1. فرض العزلة العربية على مصر بهدف:
    • تفتيت الفكرة العربية، ووأدها في مهدها.
    • تقطيع أواصر وروابط العلاقة بين مصر والمشرق العربي.
    • صناعة توجهات مصرية قطرية بعيداً عن الخصوصية العربية.
    • ربط مصر اقتصادياً باوروبا.
    • تشجيع الجامعة المصرية مقابل الجامعة الإسلامية.
  2. تهويد فلسطين - مستوطنة أرض مدين (1891-1904) ثم مشروع هرتزل في سيناء:
    أصبح في حكم البديهية التاريخية أن ما جرى من تغييرات عرقية بفلسطين بفتح أبوابها للهجرة اليهودية، وما يترتب عليه من طمس هويتها العربية، قد شكل أحد ملامح السياسة البريطانية منذ أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وذلك بهدف:
    • حماية قناة السويس الشريان الحيوي للامبراطورية البريطانية.
    • إضعاف الوجود العثماني في فلسطين وهي لصيقة بمصر، وأقرب تهديد لقناة السويس.
    • إحكام عزلة مصر عن المشرق العربي.
    • إقامة عازل ديمغرافي وثقافي مختلف، يمنع أي حاكم مصري من إعادة محاولة تجربة محمد علي.
    • ملء الفراغ بعد طرد محمد علي وفق المصالح البريطانية في المنطقة.
    • حل المسألة اليهودية بعيداً عن اوروبا.

تلك هي العلامة الفارقة في تاريخ مصر، وهي أحد أسس أزمة طابا 1906، والتي أثارته الركيزة الأساسية ألا وهي أزمة فرمان 1892، فقط يمكن التأكيد على أن هذه الأزمة صنعت وعينت حدود مصر الشرقية لأول مرة، بخط يبدأ من شرق العريش بمسافة قصيرة باتجاه جنوبي شرقي إلى رأس خليج العقبة، وبالتالي تم وقف ادعاءات الدولة العثمانية لاقتطاع أجزاء من شبه جزيرة سيناء. ويمكننا التأكيد على أن انتهاء هذه الأزمة أدى إلى:

  1. وضع الدعامة الأولى لبناء خط حدود مصر الشرقية.
  2. استكمال أسباب القطيعة بين مصر والعرب.
  3. صناعة أول خط حدودي في التاريخ الحديث بين مصر والمشرق العربي.
  4. كرس العزلة المصرية عن المشرق.

أزمة فرمان 1892

حدود مصر الشرقية بعد فرمان تنصيب الخديوي عباس حلمي الثاني 8 أبريل 1892
حدود مصر الشرقية من 1840 حتى 8 يناير 1892: من رفح حتى جنوب حصن الوجه
حدود مصر الشرقية قبل وبعد فرمان تنصيب الخديوي عباس حلمي الثاني 8 أبريل 1892

أصل هذا الخلاف يعود إلى 1892، حين أصبح عباس حلمي الثاني خديوي مصر. فقد كان محمد علي باشا وخلفاءه حتى، وضمنهم، الخديوي توفيق لم يكونوا يحكمون سيناء فقط، بل وأيضاً بعض المواقع على الجانب الحجازي من خليج العقبة. إلا أن فرمان التنصيب الصادر من السلطان عبد الحميد الثاني بمناسبة خلافة عباس الثاني اختلف عن نصوص فرمانات التنصيب السابقة، والغرض من ذلك يتضح أنه استبعاد مصر من ادارة شبه جزيرة سيناء. فتدخلت الحكومة البريطانية وبعد ضغوط معتبرة على الأستانة، حصلت على تلغراف (بتاريخ 8 أبريل 1892) من الصدر الأعظم أحمد جواد پاشا يعلن فيه استمرار الوضع الراهن في شبه جزيرة سيناء، ولكن السلطان سيعاود امتلاك المواقع في الحجاز التي كانت بها حتى ذلك الوقت حاميات مصرية. ولم تعترض بريطانيا على هذا الاستحواذ العثماني للمواقع الحجازية. فكما ذكرت الحكومة البريطانية رسمياً في ذلك الوقت، فإن الحد الشرقي لشبه جزيرة سيناء أُخِذ ليكون الخط الجاري في اتجاه جنوب شرقي من رفح، على البحر المتوسط شرق العريش، إلى رأس خليج العقبة. وقد تخلت مصر عن حصن العقبة والمواقع الأخرى إلى الشرق منه. وبذلك استتبت الأمور.

المطامع الألمانية في المشرق

الامبراطور الألماني ڤيلهلم الثاني يدخل مدينة القدس في 29 أكتوبر 1898.
بإيعاز من الامبراطور الألماني ڤيلهلم الثاني، بدأ السلطان عبد الحميد الثاني في إنشاء كلاً من سكة حديد الحجاز وسكة حديد بغداد في عام 1900، بتمويل وهندسة وإنشاء ألماني. وكانت احدى محطاته المزمعة في طابا على خليج العقبة وهو ما أثار حادثة طابا 1906.


زيارة غليوم الثاني للمشرق العربي

سكة حديد الحجاز

وفي عام 1905 نشبت سلسلة من الأعمال الإجرامية من بعض بدو سيناء، فتم تعيين مسئول بريطاني قائداً ومفتشاً على سيناء وتم اتخاذ بعض الاجراءات الادارية. فانتشر تقرير في أوساط العصبة الإسلامية (المنادية بالولاء للخلافة العثمانية) بمصر أن غرض الحكومة المصرية هو إنشاء تحصينات على الحدود المصرية العثمانية بالقرب من العقبة، في المكان الذي كان العثمانيون ينشئون فيه فرعاً لسكة حديد الحجاز الرابط بين دمشق ومكة.

استدعى المعتمد البريطاني في القاهرة اللورد كرومر السيد و. إ. جننگز-براملي W.E. Jennings-Bramly الذي يجيد التحدث باللغة العربية واللهجة البدوية وملم بعادات البدو وعينته الحكومة المصرية 1905 في وظيفة مفتش في سيناء وكلفته بمهمة التحري والاستطلاع عن مدى صحة التقارير الواردة إلى القاهرة عن نية السلطان العثماني على مد فرع جديد لسكة حديد الحجاز من معان إلى العقبة وتقيم تقرير عام عن شبه جزيرة سيناء.[2]

استعان الكولونيل براملي بقوة صغيرة من البوليس متوجهاً إلى نقب العقبة - تنفيذاً لأوامر وزارة الحربية المصرية - وشرع في إجراء بعض الاصلاحات الادارية، وتنظيم قوة من شرطة الهجانة والمشاة. وفي شهر يناير 1906 أصدرت وزارة الحربية أوامرها إلى جننگز-براملي بالتوجه إلى نقب العقبة. ونظراً لقلة المياه فيها لاستيفاء حاجة أفراد القوة والذي يقدر عددهم بخمسة جنود حرس حدود مسلحين ، فتوجه إلى المرشرش على الجانب الغربي من رأس خليج العقبة، حيث تبعد مسافة نصف ساعة من العقبة على طريق غزة - مصر.

مسألة ترسيم الحدود

في يناير 1906، اشتكى السلطان للسفير البريطاني بالأستانة من التعديات المصرية على الأراضي التركية. فردّ الخديوي المصري بطلب ترسيم الحدود بين الدولتين، إلا أن الدولة العثمانية رفضت الطلب.[3] تلا ذلك أن توجهت قوة مصرية صغيرة لاحتلال طابا، الميناء المجاور للعقبة على الجانب الغربي للخليج. وقبل أن تصل تلك القوة إلى طابا، استولى القائد التركي للعقبة على طابا. تلا ذلك فترة توتر عالي، وقام الأتراك بإزالة علامات الحدود في رفح وأرسلوا تعزيزات قوية إلى الحدود. فتدخلت الحكومة البريطانية نيابة عن الخديوي وبذلك ضغوطاً على الدولة العثمانية لتأكيد أن الحدود بين الدولتين هي الخط الواصل بين رفح والعقبة.

اعترض قائد منطقة العقبة على تواجد الكولونيل براملي وجنوده، ورفض السماح لهم بإقامة معسكر لهم، باعتبار أن المرشرش ونقب العقبة منطقة تابعة لادارة الحكومة السنية مباشرة. أذعن مفتش سيناء لرفض قائد العقبة التركي رشدي باشا، واضطر إلى الرجوع. وفور عودة براملي من سيناء وضع تقريراً بما حدث ولتفادي مزيداً من الشكوك من جانب السلطان التركي، فقد تقدمت الحكومة المصرية في تلك الأثناء بطلب إلى السلطان بتعيين لجنة من الأتراك والمصريين لتحديد التخوم بين سيناء والشام ولكن لم يحرك السلطان ساكناً.

فقد أرادت الادارة العثمانية إثارة مسألة سيناء وخليج العقبة مرة أخرى في عام 1906، وأرادت توظيف أدواتها المتعددة ومنها استثمار الصدى الكبير والرواج الممتد عبر العالم الإسلامي بسبب الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وذلك يمثل دعماً عاماً إسلامياً ضخماً يعضد من قوة وهيبة الدولة العثمانية، ويثبت قدرتها على استمرارها، ويثبت وضعها في الهيكل الدولي. وكذلك كان الرأي العام المصرية مهياً لخطوة قوية ضد الاحتلال البريطاني. واستطاعت جريدة اللواء إثارة مسألة سيناء بزعم أنها تعد لأعمال حربية مهمة. وتحذر المقالات من مغزى إرسال كولونيل بريطاني وتعيينه مفتشاً على شبه جزيرة سيناء، وتخصيص مبالغ ضخمة لإصلاحها. وغالت جريدة اللواء التي تمثل تياراً فكرياً وطنياً مؤيداً للدولة العثمانية، في أهداف ومقاصد وخطورة وجود سلطات الاحتالال البريطاني في شبه جزيرة سيناء، وصورت أن الحكومة المصرية وسلطات الاحتلال ينويان اتباع سياسة تغلغلية في سيناء، ولديهم النية على اتخاذ سيناء كقاعدة للتدخل في الحجاز في المستقبل خاصة في أمور خط حديد الحجاز الذي وصل إلى معان، وعلى بعد 100 كيلو متر من العقبة، كما نشرت بعض الصحف أن الحكومة المصرية تنوي بناء تحصينات لها أهداف عدائية.

تلك المقالات لاقت رواجاً شدياً في القاهرة واستنبول، وهو ما يمثل جبهة مساندة عريضة للدولة التركية لإثارة مسألة سيناء وخليج العقبة.

كما عضد الوالي العثماني على سوريا الدولة العثمانية في شكوكها وموقفها من إثارة مسألة سيناء وخليج العقبة، حيث كتب إلى استنبول بأن الحكومة المصرية قررت بناء ثكنات عسكرية في المنطقة فيما بين العقبة والقصيمة، وأضافت أن قوات الاحتلال البريطاني سوف تشارك في بناء تلك الثكنات.

في حقيقة الأمر فإن الدولة العثمانية كانت ترمي إلى عدة أهداف نذكر منها:

  1. اختبار مركز بريطانيا في مصر.
  2. طرح المسألة المصرية على بساط المباحثات الدولية.
  3. حماية مشروع سكة حديد الحجاز.
  4. الاقتراب أقصى ما يمكن من قناة السويس.
  5. قياس مدى الدعم الدولي لموقف بريطانيا.
  6. تصعيد أزمة تركية-بريطانية بسبب موقف السلطات البريطانية من ثوار اليمن وإمدادهم بالسلاح والذخائر والأغذية.

لم يستجب السلطان العثماني عبد الحميد لطلب الحكومة المصرية التي تقدمت بطلب تعيين لجنة مشتركة من المصريين والأتراك لتجديد التخوم بين شبه جزيرة سيناء والممتلكات العثمانية في الحجاز والشام، وإنما تجاهل الطلب المصري.

كان الرد العثماني:

  1. أمر اللواء رشدي باشا قائد حامية العقبة العثمانية باحتلال وادي طابا.
  2. مذكرة احتجاج من الباب العالي للسفارة البريطانية في استنبول ففي 12 يناير 1906، على أن ضابطاً إنجليزياً يقود فرقة مصرية قد أقام معسكراً في العقبة وأعلن نيته على اقامة مراكز حراسة في هذه النقطة وفي غيرها من الأراضي التركية.
  3. طلبت الحكومة العثمانية من السفير البريطاني في استنبول اتخاذ الاجراءات اللازمة لسحب هذه القوة من المركز الذي احتله خارج الأراضي المصرية.

اعتبرت الحكومة المصرية عدم رد السلطان على الاقتراح المصري رفضاً له، بينما اعتبرت سلطة الاحتلال البريطاني الرد العملي الذي أقدمت عليه تركيا يعني أن الدولة العثمانية معادية لفكرة تعيين حدود باعتبار أنه ليس هناك مشكلة حدود وإنما عدوان على الأراضي العثمانية. إضافة إلى ذلك وهو حيث إن مصر ولاية عثمانية فلا يمكن أن يوجد بينها وبين بقية الولايات الخاضة للادارة التركية مباشرة حدود وتخوم.

كان الرد العسكري العثماني، بمثابة إبطال تحركات براملي، ومنعه من ممارسة حق مصر في فرض السيطرة على أراضيها، وأن احتلال طابا والقصيمة ومشاش الكنتلا، هو من قبيل العمل العدواني ضد مصر وسيادتها على أراضيها ومن قبيل فرض أمر واقع على مناطق مهمة ذات قيمة استراتيجية حاكمة لسيناء.

لذلك رأت السلطات البريطانية في القاهرة نتيجة لعدم موافقة الحكومة التركية على تعيين الحدود، فإنه من الضروري تأمين المراكز المصرية على هذه الحدود. وتقرر إرسال قوة مصرية من خمسين رجلاً وعلى رأسهم ضابط مصري وهو سعد بك رفعت لمقابلة براملي على الحدود قرب العقبة لاحتلال طابا. كذلك صدرت الاوامر إلى المستر براملي لاحتلال نقب العقبة والقطار، وهما نقطتان مهمتان تتحكمان في الجبل الذي يمر خلاله الطريق من الساحل إلى داخل هضبة سيناء.

تقدمت القوة المصرية نحو طابا في سفينة خفر السواحل المصرية "نور البحر"، ولكنها لم تستطع تنفيذ مهمتها حيث أن القوات التركية قد انتشرت على التلال التي تطل على طابا من الشرق، ورفض القائد التركي السماح لهم بالنزول إلى الشاطئ باعتبار أن طابا في حد العقبة وجزء منها، وأصر على المقاومة في حال إنزال القوة العسكرية المصرية طبقاً وتنفيذاً للأوامر العليا الصادرة إليه.

اضطرت القوة المصرية إلى التراجع تنفيذاً للأوامر بعدم الصدام إلا في حالة اطلاق النار عليها، فانسحبت إلى جزيرة فرعون الملاصقة للساحل الغربي جنوب طابا، انتظاراً لتعليمات جديدة من القاهرة.

استخدمت الادارة التركية عن طريق قائد العقبة العثماني القوة في احتلال أراضي مصرية، ومارست العنف والتهديد ضد القوة المصرية، وبذلك أفشلت مهمة هذه القوة التي كانت ترمي إلى:

  • سد الطرق بين الأراضي المصرية والممتلكات العثمانية.
  • منع القوة التركية من التغلغل داخل الهضبة.
  • منع مبعوث الدولة العثمانية من الوصول إلى قبائل سيناء ومحاولة استمالتها.

لم تكتف الدولة العثمانية باستخدام القوة والعنف العسكري فقط لخلق أمر واقع، وإنما تحركات الدبلوماسية العثمانية في محاولة لتثبيت هذا الأمر عن طريق الضغط السياسي على الخديوي عباس، واستغلال الأوضاع السياسية في ذلك الوقت حيث احتدم الخلاف بين الخديوي عباس ومصطفى كامل، لتقرب الأول من الإنجليزي بعد علمه بالوفاق الودي 1904 بين فرنسا وإنجلترا، وإدراكه عدم إمكانية نجاح سياسة المناهضة للاحتلال البريطاني في مصر. وهو:

  • هل يؤيد الخديوي عباس مع الحزب الوطني الموقف العثماني؟
  • هل يؤيد السياسة البريطانية في مصر؟
  • هل في ظل وجود الاحتلال العسكري والسياسي البريطاني يمكنه أن يتخذ قراراً سياسياً منفصلاً؟

وإزاء هذا المركز الحرج للخديوي عباس، مارست الدبلوماسية العثمانية عنفاً ضده لإجباره على الاصطدام بالإنجليزي أو فقد شعبيته التي يحظى بها لدى الرأي العام المصري الذي كان يؤيد السلطان العثماني تحت تأثير الحزب الوطني وأدواته. أبرق الصدر الأعظم ثلاث برقيات متوالية شديدة اللهجة وتحمل تهديدات واضحة.

تطلب البرقية الأولى في 10 يناير 1906 أن تمتنع مصر عن بناء المركز المزمع إقامته حيث ن الموقع تركي وعليه حامية عثمانية يقودها لواء، وهو منصب عسكري رفيع يتناسب مع أهمية الموقع - وتؤكد البرقية عدم رضاء بل ورفض الباب العالي لهذا السلوك، وتطلب التراجع فوراً للقوة المصرية، وتأمر الخديوي بالتحرك السريع الفوري ويعلن أنه لن يتم إرسال مبعوث تركي لتعيين الحدود.

أما البرقية الثانية في 12 يناير 1906 أيدت البرقية الأولى مع مزيد من التعسف ضد الخديوي لإحراجه ومزيد من التعسف ضد مصر وحقها الثابت تاريخياً في أراضيها، فتؤكد على أن الأراضي التركية تشمل العقبة والمناطق المجاورة بما فيها طابا، وأنها ليست ضمن الأراضي الممنوحة لمصر.

وبتحليل مضمون هذه البرقية يمكن استخلاص ما يلي:

  1. أن تركيا تتراجع عن مضمون برقية الصدر الأعظم المؤرخة في 8 أبريل 1892.
  2. ليس لدى تركيا نية الموافقة على تعيين لجنة مشتركة للحدود.
  3. إن إصرار مصر على موقفها يعتبر خروجاً عن الأوامر وعصياناً واضحاً.
  4. الخروج عن الطاعة سوف يواجه أشد الاجراءات لوقفه.
  5. التأكيد على أن مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية، وهي قسم منها، أي أن الشأن داخلي لمنع التدخل البريطاني، وكذلك تأكيد على أنه لا حدود بين أجزاء أو أقسام الدولة العثمانية الواحدة.

وتصاعد الضغط العثماني على الخديوي بطلب سحب "نور البحر" والقوة المصرية من جزيرة فرعون والتوقف عن بناء نقاط عسكرية وإلا "سوف تحدث أزمة". معنى هذا، أن تركيا أرادت وضع يدها على المناطق الاستراتيجية في خليج العقبة والمناطق الحاكمة المجاورة، بغية تأمين مكاسب لها أسوة بما وقع على إثر فرمان أبريل 1892 أي حصولها على العقبة ومن ثم تزايد نفوذها وسيطرتها على البحر الأحمر، إضافة إلى التواصل الجغرافي بين الحجاز الشام، وأيضاً ما تمثله العقبة كبوابة شمالية للحجاز، وما يمثله رأس الخليج كأقرب نقطة للسيطرة عليها.

كان هذا التهديد يهدف إلى مساومة سلطات الاحتلال، واكتساب مواقع جديدة في سيناء وفي الضفة الغربية في خليج العقبة، على أساس عدم اكتراث السلطات البريطانية بالمصالح الوطنية المصرية، ولتفادي أزمة حادة بالتنازل عن بعض المواقع المصرية وهو ما لا يكلف بريطاني الكثير. لم تقرأ الدولة العثمانية جيداً المصالح المصرية - البريطانية المشتركة والمتمثلة في هدف إبعاد كل ما يهدد قناة السويس وهو ما يستوجب تأمين الحدود الشرقية، أي تأمين شبه جزيرة سيناء، باعتبارها خط الدفاع الأول عن القناة واعتبارها منطقة عازلة بين الممتلكات العثمانية وبين مصر - حسب المفهوم العسكري القديم حيث الصحراء أراض عازلة وفاصلة لتأمين البلاد.

أزمة طابا

الخديوي عباس حلمي يهش الديك الرومي التركي خارج الحدود المصرية. مجلة پنش، لندن، في قمة أزمة طابا، 9 مايو 1906.

عام 1906، اعتزم العثمانيون والألمان مد سكة حديدية من معان إلى العقبة، وهذه السكة تجعل لتركيا (وحليفتها ألمانيا) قوة جديدة على حدود مصر، وتهدد مركز الإحتلال الإنگليزي، فاهتم الإنگليز بهذا الحادث، واعتبروا أن وصول السكك الحديدية الألمانية-العثمانية إلى العقبة سيشكل منافس لقناة السويس في الشحن بين الشرق والغرب. فأرسلت بريطانيا ضابطاً كبيراً عهدوا إليه وضع نقط عسكرية على طول الخط من العريش إلى العقبة، باعتبار أنها من أملاك مصر، إذ هي جزء من طور سيناء المعهودة ادارتها إلى مصر، ولكن الجنود الأتراك احتلوا موقع طابا على بعد ثمانية أميال غربي العقبة.[4]

قام لذلك خلاف شديد بين تركيا وإنگلترا، ظهرت فيه بمظهر الدولة الحامية لمصر، إذ طالبت إنگلترا تركيا باسم مصر أن تجلو عن طابا، وتهددت وتوعدت كما لو كانت مصر جزءاً من أملاكها، فكان هذا المظهر من علامات الحماية التي أثارت سخط مصطفى كامل، فاستنكر موقف إنگلترا من هذه الحادثة ودعا الإنگليز إلى الجلاء عن مصر بدلاً من أن يتظاهروا بالدفاع عن حقوقها.

كانت تركيا (وألمانيا) ترمي بعملها هذا إلى فتح باب المسألة المصرية من جديد لإجبار إنگلترا على الوفاء بعهودها في الجلاء، ومن هنا جاء عطف الأمة المصرية على موقفها في هذه الحادثة، إذ كان شبيها من بعض الوجوه بموقف فرنسا في حادثة فاشودة، وقد كانت تركيا تتوقع أن تؤيدها بعض الدول الأوروبية في فتح المسألة المصرية، ولكن فرنسا كانت بحكم الاتفاق الودي مؤيدة لإنگلترا، وطلب سفيرها في الأستانة من الحكومة التركية الإذعان لمطالب إنگلترا، ووقفت روسيا موقفا يشبه موقف فرنسا، ولزمت ألمانيا الجمود حيال هذا الخلاف، مما جعل تركيا تجنح للتراجع.

المواقع التاريخية بمنطقة رأس خليج العقبة.

انتهت الحادثة بانسحاب الترك من طابا في مايو سنة 1906، وتأليف لجنة مصرية تركية لتسوية مسألة الحدود على قاعدة معاهدة لندن سنة 1840 وتلغراف 8 أبريل سنة 1892 المرسل إلى الخديوي عباس الثاني والذي خوّل مصر ادارة شبه جزيرة طور سيناء، وانتهت اللجنة من عملها في 1 أكتوبر سنة 1906، إذ تم الاتفاق على الحدود الشرقية على أن تكون خطا ممتداً من رفح على البحر الأبيض المتوسط إلى نقطة واقعة غربي العقبة بثلاثة أميال، وبقيت طابا ضمن أملاك مصر والعقبة من أملاك تركيا.

إبرام الاتفاقية

أُبرمت الاتفاقية في رفح بتاريخ 1 أكتوبر 1906 بين مندوبى الدولة العلية ومندوبى الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين خط فاصل ادارى بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء.[5] بما أنه قد عهد الى كل من:

بما أنه قد عُهد إلى كل من الأميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك والبكباشي أركان حرب "محمد فهمي بك" بصفتهما مندوبا الدولة العلية وإلى كل من أمير اللواء إبراهيم فتحي والأميرالاي روجر كارمايكل روبرت أوين بك بصفتهما مندوبا الخديوية الجليلة المصرية بتعيين خط فاصل ادارى بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء قد اتفق الفريقان باسم الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية على ما يأتي:

  • مادة 1 - يبدأ الخط الفاصل الادارى كما هو مبين بالخريطة المرفقة بهذه الاتفاقية من نقطة رأس طابا الواقعة على الساحل الغربي لخليج العقبة ويمتد إلى قمة جبل فورت مارا على رؤوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادي طابا ثم من قمة جبل فورت يتجه الخط الفاصل بالاستقامات الآتية: من جبل فورت إلى نقطة لا تتجاوز (200) مائتي متر إلى الشرق من قمة جبل فتحي باشا، ومنها الى النقطة الحادثة من تلاقى امتداد هذا الخط بالعمود المقام من نقطة على مائتى متر من قمة جبل فتحى باشا على الخط الذى يربط مركز تلك القمة بنقطة المفرق (المفرق، هو ملتقى طريق غزة-العقبة بطريق نخل-العقبة) ومن نقطة التلاقي المذكورة إلى التلة التى إلى الشرق من مكان ماء يعرف بثميلة الردادي والمطلة على تلك الثميلة (بحيث تبقى الثميلة غربى الخط) ومن هناك الى قمة رأس الردادي المدلول عليها بالخريطة المذكورة أعلاه بـ A3 ومن هناك الى رأس جبل الصفرة المدلول عليها بـ A4 ومن هناك الى القمة الشرقية لجبل أم قف المدلول عليها بـ A5 ومن هناك الى نقطة مدلول عليها بـ A7 الى الشمال من ثميلة سويلمة ومنها الى نقطة مدلول عليها بـ A8 الى غرب الشمال الغربى من جبل سماوي ومن هناك الى قمة التلة التى الى غرب الشمال الغربى من بئر المغارة ( وهو بئر فى الفرع الشمالى من وادي ما بين بحيث يكون البئر شرقى الخط الفاصل) ومن هناك الى A9 ومنها الى A9 bis غربى جبل المقراة ومن هناك الى رأس العين المدلول عليها بـ A10 bis ومن هناك الى نقطة على جبل أم حواويط مدلول عليها بـ A11 ومن هناك الى منتصف المسافة بين عمودين قائمين تحت شجرة على مسافة (390) ثلثمائة وتسعين متراً الى الجنوب الغربى من بئر رفح والمدلول عليه بـ A13 ومن هناك الى نقطة على التلال الرملية فى اتجاه مائتين وثمانين درجة (280) من الشمال المغناطيسي (أعنى ثمانين درجة إلى الغرب) وعلى مسافة (24) أربعمائة وعشرين متراً فى خط مستقيم من العمودين المذكورين ومن هذه النقطة يمتد الخط مستقيما باتجاه (334) ثلثمائة وأربع وثلاثين درجة (334) من الشمال المغناطيسي (أي (25) ستة وعشرين درجة إلى الغرب) إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط ماراً بتلة خرائب على ساحل البحر.
  • مادة 2 - قد دل على الخط الفاصل المذكور بالمادة الأولى بخط أسود متقطع فى نسختى الخريطة المرفوقة بهذه الاتفاقية والتى يوقع عليهما الفريقان ويتبادلانها بنفس الوقت الذى يوقعان فيه على الاتفاقية ويتبادلانها.
  • مادة 3 - تقام أعمدة على طول الخط الفاصل من النقطة التى على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى النقطة التى على ساحل خليج العقبة بحيث ان كل عمود منها يمكن رؤيته من العمود الذى يليه وذلك بحضور مندوبى الفريقين.
  • مادة 4 - يحافظ على أعمدة الخط الفاصل هذه كل من الدولة العلية والخديوية الجليلة المصرية.
  • مادة 5 - إذا اقتضى فى المستقبل تجديد هذه الأعمدة أو الزيادة عليها فكل من الطرفين يرسل مندوباً لهذه الغاية وتطبق مواقع العمد التى تزاد على الخط المدلول عليه فى الخريطة.
  • مادة 6 - جميع القبائل القاطنة فى كلا الجانبين لها حق الانتفاع بالمياه حسب سابق عاداتها أى أن القديم يبقى على قدمه فيما يتعلق بذلك وتعطى التأمينات اللازمة بهذا الشأن الى العربان والعشائر وكذلك العساكر الشهانية وأفراد الأهالى والجندرمة ينتفعون من المياه التى بقيت غربى الخط الفاصل.
  • مادة 7 - لا يؤذن للعساكر الشهانية والجندرمة بالمرور إلى غربي الخط الفاصل وهم مسلحون .
  • مادة 8 - تبقى أهالي وعربان الجهتين على ما كانت عليه قبلا من حيث ملكية المياه والحقول والأراضي فى الجهتين كما هو متعارف بينهم .
التـوقـيــع
مندوبون من قبل الخديوية الجليلة المصرية       مندوبون من قبل الدولة العلية
أمير اللواء إبراهيم فتحي أميرالاي أركان حرب أحمد مظفر بك
أميرالاي أوين بك بكباشي أركان حرب "محمد فهمي بك"

التبعات

الترسيم النهائي المصري-العثماني: رفح-طابا، 1 أكتوبر 1906.
خط الحدود الذي اقترحه العثمانيون في أغسطس 1906.
المقترح العثماني الثالث: رفح-راس محمد.
المقترح العثماني الثاني: رفح-السويس.
المقترح العثماني الأول: العقبة-السويس.
تطور حدود مصر الشرقية أثناء وبعد حادثة طابا 1906.


أقرت الاتفاقية ضم شبه جزيرة سيناء إلى مصر لتحقيق خطة بريطانيا بأن تبقى قناة السويس في أراضي مصرية خاضعة لها ولا تنازعها السيادة عليها دولة أخرى مجاورة، حيث كانت قناة السويس أهم شريان ملاحي في العالم.

بموجب الاتفاقية، تأسس خط رفح-العقبة، وهو خط حدود يبلغ طوله 277 كم يفصل بين شبه جزيرة سيناء والنقب وهو اليوم عبارة عن الحدود الدولية بين مصر وإسرائيل في معظم طول مساره، أما في مساره الشمالي البالغ 11 كم فهو عبارة عن الحدود بين مصر وقطاع غزة التابع للسلطة الوطنية الفلسطينية. وقد سمي نسبة إلى مساره المحتمل في بداية المفاوضات بشأنه. أما عند رسمه بالفعل فاتفق الجانبان على مسار مختلف قليلاً، حيث يمر الخط بين رفح الواقعة على شاطئ البحر المتوسط وطابا الواقعة على شاطئ خليج العقبة. وفي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية اتفقت كل من مصر وإسرائيل على "الممارسة التامة للسيادة المصرية حتي الحدود المعترف بها دوليا بين مصر وفلسطين تحت الانتداب"، وبذلك أقرتا من جديد مكانة خط رفح العقبة كالحدود الدولية.[6]

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ ألفت أحمد الخشاب (2008). تاريخ تطور حدود مصر الشرقية. دار الشروق.
  2. ^ Nurit Kliot (1995). "The evolution of the Egypt-Israel boundary: from colonial foundations to peaceful". IBRU. pp. 4 of 21.
  3. ^ P. Toye (1989). "Palestine Boundaries 1833–1947". Cambridge Archive Editions. pp. 2, 500 pages. ISBN (13) 978-1-85207-175-2. {{cite web}}: Check |isbn= value: invalid character (help)
  4. ^ عبد الرحمن الرافعي (1984). مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية. دار المعارف.
  5. ^ الدكتور أنطون صفير بك. "اتفاقية حدود مصر الشرقية". محيط الشرائع - 1856 - 1952. pp. ص 1617.
  6. ^ "ما هي حدود مصر؟ تابع الاجابة ضمن مقالنا". الموسوعة التعليمية العربية. 2024-01-05. Retrieved 2024-01-05.