المتاهة اللبنانية

المتاهة اللبنانية
غلاف كتاب المتاهة اللبنانية.webp
غلاف كتاب المتاهة اللبنانية
المؤلفرؤوفين أرليخ
العنوان الأصليBsvakh halevanon
المترجممحمد بدير
البلدFlag of Israel.svg إسرائيل
اللغةالعبرية
الموضوعتاريخ الصهيونية
العلاقات الإسرائيلية اللبنانية
الصنفتاريخ سياسي
الناشرمعرخوت
تاريخ النشر
2000
نـُشـِر بالعربية
2017

المتاهة اللبنانية (بالعبرية: "Bsvakh halevanon"؛ الناشر: معرخوت، 2000)) كتاب بالعبرية أصدره رؤوفين إرليخ، في عام 2000، يتكلم عن سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان من 1918 إلى 1959. في سنة 2017 صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب في بيروت، تعريب محمد بدير.

المؤلف ضابط إسرائيلي خدم في المخابرات الإسرائيلية، وكان نائباً لأوري لوبراني بين 1985 و 2000. ولوبراني اسم يعرفه سكان الجنوب اللبناني جيداً؛ فقد كان منسق النشاط الإسرائيلي في لبنان بعد احتلال عام 1982.

الكتاب دراسة تبحث في العلاقات التي نسجتها الوكالة اليهودية، ثم دولة إسرائيل، مع الجماعات الطائفية اللبنانية طوال أربعين سنة (1918-1958). ويستند إلى الأرشيف الصهيوني وأرشيف دولة اسرائيل وأرشيف الجيش الاسرائيلي وأرشيف الهجاناه وأرشيف شعبة الاستخبارات العسكرية وأرشيف حزب العمل، علاوة على مراسلات زعماء الحركة الصهيونية، خصوصاً دافيد بن غوريون وموشي شاريت، وكتب اليوميات والمذكرات والشهادات الشخصية، وكذلك الوثائق المحفوظة في معهد تراث بن غوريون، فضلاً عن مئات الكتب والمقالات العبرية والعربية والمقابلات الشخصية المباشرة.

وأهمية هذا الكتاب الخطير ليس في معلوماته الغزيرة فحسب، بل في تفصيلاته الكثيرة وشموليته وإحاطته بالموضوع الذي يدرسه المؤلف، وهو لا يكتفي بسرد الوقائع المستلّة من المحفوظات الصهيونية، بل يحللها بمنهج يجمع المعلومات إلى الاستراتيجيات والسياسات في سياق تاريخي واحد.

نبذة

معظم ما جاء في الكتاب قرأناه في مصادر متفرقة، خصوصاً اتفاق البطريرك أنطوان عريضة مع الوكالة اليهودية الذي عثرنا عليه أول مرة في كتاب بدر الحاج "الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان: قراءة في مذكرات إلياهو ساسون وإلياهو إيلات" (بيروت: دار مصباح الفكر، 1982).

وكان إلياهو إبشتاين (إيلات) نشر مذكراته عن الاتصالات الصهيونية – العربية في كتاب عنوانه "جلوس صهيون والعرب" (1974)، ثم نشر إلياهو ساسون كتاباً آخر في الشأن نفسه عنوانه "في الطريق إلى السلام" (1978). وفي الكتابين تفصيلاتٌ صادمةٌ عن علاقة الحركة الصهيونية بشخصيات لبنانية بارزة، أمثال الرئيس إميل إدة وخير الدين الأحدب والشيخ حسين حمادة والمطران عبد الله الخوري ومحمد العبد الله وجورج مشحور وراشد الريشاني والصحافي إلياس حرفوش صاحب صحيفة الحدث اللبنانية.

وفي كتاب كيرستين شولتزة "دبلوماسية إسرائيل السرّية في لبنان" (بيروت: شركة المطبوعات، 1998) قرأنا بدقة محاضر اجتماعات إميل إدّة وطوبيا أرازي، وتفصيلات عن الصلات التي عقدتها الوكالة اليهودية مع توفيق سمعان وإميل الخوري حرب وشارل مالك ومحمد علي حمادة وإلياس ربابي الذي تسلم من الوكالة اليهودية مبالغ نقدية، تافهة تبرهن وضاعته وانحطاطه، فضلاً عن كميل شمعون الذي لم يتورّع عن تسلم مئات الرشاشات وآلاف الطلقات الحربية من إسرائيل في سنة 1958، وحذا حزب الكتائب حذوه كحذو النعل للنعل.

وكثير مما جاء في كتاب رؤوفين إرليخ موجود في كتاب ليئورا أيزنبرغ "عدو عدوي" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1997) الذي يتضمن معلوماتٍ وافيةً عن المطران إغناطيوس مبارك وإميل إدة وألبير نقاش (مؤسس جمعية الفينيقيين الشبان، الصهيونية الهوى)، وعن لقاءات رياض الصلح والوكالة اليهودية، وكذلك المونسنيور يوسف رحمة وقيصر إدّة وشارل قرم (شريك ألبير نقاش في تأسيس جمعية الفينيقيين الشبان) وجوزف عواد وإلياس ربابي ونجيب صفير الذي وصفه الصهيوني دافيد أدير بـِ "النصّاب"، مع أنه جهد واجتهد في خدمة الحركة الصهيونية، واقترح على حاييم وايزمان في سنة 1919 تقسيم المنطقة كالتالي: لبنان للمسيحيين، سورية للمسلمين، فلسطين لليهود.

أما حكاية رياض الصلح ولقاءاته المتمادية مع الوكالة اليهودية، فكنا قرأناها متفرقة هنا وهناك في المصادر المذكورة، خصوصاً في كتابي بدر الحاج وليئورا أيزنبرغ. أما الشوط الأخير من هذه اللقاءات فقد فضح أسرارها الباحث الفلسطيني، محمود محارب، في دراسة مطوّلة نُشرت في صحيفة السفير في أربع حلقات (29/1-3/2/2011)، وفيها تفصيلاتٌ مذهلةٌ عن لقاءات إلياهو ساسون وطوبيا أرازي ويولاند هارمر مع رياض الصلح في باريس، غداة إعلان قيام دولة اسرائيل. وكان تقي الدين الصلح وزهير عسيران على درايةٍ ومُشاركةٍ في تلك اللقاءات من خلال قناة يولاند هارمر. وباختصار، ما قرأناه متفرقاً هنا وهناك، ها نحن نقرأه مجموعاً في هذا الكتاب.

في الجزء الأول من كتاب المتاهة اللبناينة، وتحت عنوان "سياسة الحركة الصهيونية تجاه لبنان خلال فترة الإنتداب" (1918-1947)، سعت الحركة الصهيونية إلى دفع ثلاث مصالح أساسية قدماً في لبنان: المصلحة السياسية بتأسيس علاقة وثيقة بل عقد تحالف رسمي مع الطائفة المسيحية المارونية المهيمنة على لبنان، كمدماك لتبلور أوسع لــ"حلف الأقليات"، المصلحة الإقتصادية والإستيطانية بضم نهر الليطاني ومصادر المياه الأردنية إلى حدود أرض اسرائيل، والمصلحة الأمنية بمنع تنظيمات وأنشطة معادية للإستيطان اليهودي سواء من قبل مجموعات مسلحة أو من قبل جيوش نظامية، (ص 23).

في الفصل الأول عن "النشاط السياسي للحركة الصهيونية في لبنان"، يشير المؤلف إلى أن السياسة الصهيونية تجاه العالم العربي خُططت وأُديرت من قبل القسم السياسي في الوكالة اليهودية الذي تأسس عام 1923، معدداً أسماء بارزة في هذا المجال ومنهم كالفاريسكي، وايزمن، (يرد في الكتاب باسم فايتسمان)، كما جند موشيه شاريت عام 1934 إلياهو ساسون إبن رئيس الجالية اليهودية في دمشق سابقاً وصاحب العلاقات الواسعة في العالم العربي منذ فترة شبابه حين درس في بيروت وكان عضواً في جمعية وطنية إلى جانب عدد من القادة المستقبليين في سوريا والعراق (ص25 -26) (للاستفادة يمكن مراجعة كتاب "عدو عدوي" – الصلات الصهيونية اللبنانية 1900-1948 – تأليف لورا أيزنبرغ، دار رياض الريس وفيه على سبيل المثال إنزعاج حميد فرنجية – وقد تسَنّم منصب وزير الخارجية – من جمعه بساسون بحجة أنه يتحدث اللغة العربية في حين أن فرنجية كان ينتظر أن تكون اللقاءات مع يهود غربيين)!

كتاب المتاهة اللبنانية لرؤوفين- رليخ. لقراءة وتحميل الكتاب، اضغط على الصورة.

العلاقات مع موارنة لبنان

في العلاقات مع الطائفة المارونية في لبنان، وتبعا لكتاب “المتاهة اللبنانية”، برز معسكران رئيسيان، الأول، صاحب رؤية إنفصالية، والثاني، أيّد قيام لبنان مستقل ضمن حدود 1920 كجزء من العالم العربي.

على رأس المعسكر الإنفصالي كان يوجد منذ منتصف العشرينيات إميل اده (رئيس لبنان بين العامين 1936 و1941)، البطريرك الماروني أنطوان عريضة، مطران بيروت إغناطيوس مبارك ورئيس الكتائب بيار الجميل. اما المعسكر المؤيد لكيان لبناني مستقل كجزء من العالم العربي، فقد ترأسه بشارة الخوري، وكان من ضمن هذا المعسكر الأرثوذكسي شارل دباس (الرئيس الأول للبنان 1926-1933)، وميشال شيحا المصرفي الكلداني الكاثوليكي وصهر بشارة الخوري، إلى جانب أسماء عدة يوردها الكتاب تباعاً. ويبدو أن عتات الدعوة للتحالف مع الصهيونية تصرفوا بعقلية “المَونَة”، إذ أن المطران مبارك ناشد وزارة خارجية إسرائيل لإرجاع موارنة قرية (كفر برعم) التي هُجّروا منها بالطرد، لكن لم “يُحتَرم” طلبه، وحلّت مكان برعم مستوطنات جديدة، إضافة إلى عدم قبول قادة الصهاينة في تشرين أول 1948 متطوعين موارنة للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي من خلال وحدة خاصة بهم، لأن “دولة إسرائيل غير معنية بإنشاء وحدة مارونية في الجيش، لكن يوجد لديها مصلحة في إنشاء “وحدة صغيرة جداً” غير نظامية من خبراء التخريب ومنفذي الأعمال القذرة في أرض العدو، خلف الخطوط”(ص274).

ومن المهم التوقف عند ما جاء في كتاب “المتاهة” بين الصفحتين 33 و106، من خلال الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية وجدت في أميل إده “صاحب النزعة الفرنسية والمعارض للقومية العربية والسورية حليفاً طبيعياً” وأنه بعد انتخابه رئيساً للبنان في العام 1936، أقام إده علاقات وثيقة مع إلياهو إيلات (إلتقيا مرارا اثناء دراسة إيلات في الجامعة الأميركية في بيروت بين عامي 1931 و1934، وإلتقى إده حاييم فايتسمان في 22 حزيران 1937 “وبارك له دولة اليهود العتيدة، و في صيف 1946، إلتقى إده في باريس بدافيد بن غوريون ورؤوفين شيلواح وبعث معهما رسالة تتضمن طلباً مالياً كبيراً (25000 ليرة أرض إسرائيلية) من أجل السيطرة على الحكم في لبنان”.

الرجل الثاني هو البطريرك الماروني أنطوان عريضة الذي كانت الوكالة اليهودية ترى فيه “صديقاً حقيقياً للحركة الصهيونية” ثم البطريرك الماروني إغناطيوس مبارك “الذي أظهر تاييداً علنياً وصاخباً للحركة الصهيونية”، وفي 30 أيار 1946 وُقع إتفاق في القدس صاغه إلياهو ساسون ووقعه يعقوب شمعون عن الوكالة والشيخ توفيق عواد بالنيابة عن البطريركية المارونية، إعترفا بموجبه “بمطلب الشعب اليهودي بإقامة دولة مستقلة في أرض إسرائيل وإقامة دولة مستقلة في لبنان ذات طابع مسيحي”.

ومن الأسماء الفاعلة إلى جانب فريق البطريرك الصحافي والمشجع للعلاقة مع الصهاينة، الياس حرفوش ورئيس الجمعية اللبنانية في أميركا سلوم مكرزل، إضافة إلى رئيس تحرير جريدة العمل التابعة لحزب الكتائب الياس ربابي بتكليف من بيار الجميل رئيس الحزب، علما أن ربابي لطالما طالب بأموال من الوكالة اليهودية “لدعم الجريدة وتغيير الحكم في لبنان”، إذ أنه لم يكن يكتفي بالميزانية السنوية. أما بشارة الخوري الذي يصفه المؤلف بأنه كان صاحب نزعة معادية للصهيونية، فقد إجتمع في 11 آب 1941 في بيروت بإلياهو ساسون وقال له “يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل.

ثمة ضرورة لإخلائه من سكانه الشيعة الحاليين الذين يشكلون خطراً دائماً على البلدين والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربية التابعة للمفتي المقدسي”، ويكمل المؤلف أنه لأجل ذلك اقترح بشارة الخوري “إخلاء جبل عامل من سكانه الشيعة وإسكانه بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتحدة”. واقترح الخوري أن يقوم المشروع الاستيطاني اليهودي بإقراض البطريرك الماروني عريضة مبلغاً من المال من أجل شراء جبل عامل وتوطين الموارنة فيه ليكونوا جيراناً لليهود ويتمكنوا من التعاون معهم بدون عوائق”.(ص124).

العلاقات مع الشيعة

يذكر المؤلف أنه منذ مطلع القرن العشرين، نُسجت علاقات بين مستوطني المطلة وموظفي البارون (روتشيلد) وبين الزعامة الشيعية الإقطاعية في القرى الجنوبية اللبنانية القريبة من المطلة، والتي كان لها تأثير في المنطقة وعموم جنوب لبنان.. العائلتان الشيعيتان البارزتان كانتا عائلة الأسعد في الطيبة وعائلة عبدالله في الخيام. الشخصيات البارزة في هاتين العائلتين هي: خليل بك الأسعد (زوجته يهودية)، كامل بك الأسعد الذي ورث خليل الأسعد بعد موته في العام 1908، عبد اللطيف بك الأسعد، محمود الأسعد شقيق كامل، الحاج حسن عبد الله وإبنه الحاج ابراهيم عبد الله الذي ورث مكانه بعد موته 1916.

وفي مطلع الأربعينيات، “أفضت العلاقات مع الشيعة إلى مساعدة الإستيطان سواء في المجال الأمني أو في مجال شراء الأراضي داخل أرض اسرائيل لمصلحة المستوطنات الجديدة التي أُنشِئَت في تلك الفترة قريباً من الحدود” وفي “الحصول على معلومات حول التنظيمات الفلسطينية في لبنان وتسلل المجموعات المسلحة إلى داخل أرض إسرائيل”.

في المجال الإستيطاني، فإن العلاقات مع أحمد الأسعد وشخصيات شيعية أخرى (سعد الدين شاتيلا من قرية العديسة وهو هاجر لاحقا إلى بيروت) إستُغلت كرافعة لشراء أراضٍ لمصلحة تأسيس نقاط استيطانية جديدة، بيع أراضي قريتي العديسة والطيبة الموجودة داخل أراضي إسرائيل من قبل أحمد الأسعد وكذلك في التسوية التي حصلت بين الصندوق القومي اليهودي وأحمد الأسعد وتضمنت شراء أراضي بلدة المنارة في تشرين الأول 1942. كما أن صفقات الأراضي بين الصندوق القومي وبين شخصيات شيعية “تواصلت في الأربعينيات رغم ما كان ينشر عنها ورغم العداوة المتزايدة تجاه الإستيطان الصهيوني داخل دوائر حكم بشارة الخوري”.

يوضح الكتاب أن الوكالة اليهودية قررت تقديم “معاملة خاصة” لوزير الأشغال العامة والزراعة اللبناني الشيعي من عائلة حيدر اثناء زيارته المزمعة إلى أرض اسرائيل (1936)، تلبية لدعوة المفوض السامي البريطاني ( يقول المؤلف أن الوزير الشيعي المقصود هو ابراهيم بك حيدر)، كما يشير إلى علاقة إلياهو ساسون بتوفيق حلو حيدر أحد رجال الثورة الدرزية عام 1925 (لعل المقصود هولو بدل حلو)، وأيضاً يشير إلى “وعد أحمد الأسعد وصبري حمادة لبذل جهد لمنع تهريب السلاح إلى أرض إسرائيل”.

وفي الخمسينيات ــ يقول المؤلف ــ تبدلت علاقة حسن الجوار بين المستوطنات اليهودية في الشمال وجيرانها الشيعة وتحولت إلى علاقة قطيعة مُرفَقَة بمشاعر عدائية والسبب الرئيسي في ذلك التحولات السياسية والإجتماعية التي طرأت في الخمسينيات في قلب الوسط الشيعي في لبنان.

العلاقات مع الدروز

يذكر الكاتب رؤوفين إرليخ أن أبناء الطائفة الدرزية في جبل لبنان “أقاموا علاقات جريئة مع الزعامات السياسية للطائفة في جبل الدروز ومع أبناء طائفتهم في أرض إسرائيل”. ويشير هنا إلى “دور شكيب أرسلان، وهو كاتب وصحافي قومي عربي انتمى في تلك الفترة إلى السلك الوظيفي العثماني وعُيّن عام 1902 قائممقام الشوف”. شكيب أرسلان الذي نسق مع “جبور بك رزق الله مالك عقارات مسيحي من صيدا باع أملاكه في المطلة، بشأن التوسط بين دروز المطلة الذين سكنوها بعد أحداث 1860 وبين موظفي البارون لكن دون نتائج..” ولكن بعد دفع التعويضات المالية تحسنت الأوضاع بين سكان المطلة والدروز”. أما إستعانة المشروع الإستيطاني بالدروز في المجال الأمني، فقد بدأت عامي 1928-1929 عندما تشكلت المجموعات الفلسطينية المسلحة الأولى في تلك الفترة ونشطت في الشمال عصابة درزية ترأسها اسماعيل عبد الحق (من منطقة راشيا الوادي في لبنان) ومساعده قاسم ذبيان (من حاصبيا). كما يعرض الكتاب لاجتماعات إلياهو إيلات مع شخصيات درزية في لبنان أثناء دراسته في بيروت حيث إلتقى في تشرين أول 1934 بالبروفسور سعيد حمادة البروفسور في الإقتصاد بالجامعة الأميركية ببيروت من عائلة حسين حمادة الزعيم الديني للدروز، كذلك نشأت علاقة مع نظيرة جنبلاط (الست نظيرة والدة كمال جنبلاط زعيمة الجناح الجنبلاطي في لبنان آنذاك) “والتي عند مرور وفد من شخصيات درزية ذاهبة إلى أرض اسرائيل بالمختارة استضافتهم الست النظيرة التي دعت الدروز في إسرائيل إلى العمل يداً بيد مع الحكومة واليهود والتي وعدت بالطلب من السلطات في بيروت زيادة الحراسة على الحدود (1936)”، وفي العام 1938، نشأت علاقات مباشرة بين إلياهو ساسون موفد القسم السياسي في الوكالة وبين الشيخ حسين حمادة من بعقلين الزعيم الديني للطائفة الدرزية في لبنان، مع الإشارة إلى أن محمد علي حماده والد مروان حماده كان في عداد الوفد اللبناني في مفاوضات الهدنة” وعُيِّن لاحقاً سفيراً في الخارج، وقد “ترك انطباعاً إيجابياً عند الوفد الإسرائيلي” (ص380). كما فتحت الوكالة اليهودية خطوطا مع كمال جنبلاط بعد تراجع علاقتها بالوسط الشيعي في الخمسينيات.

العلاقات مع السُنة

يشير الكتاب إلى” تورط عائلات سنية في بيع أراضٍ بمساحات واسعة للمشروع الإستيطاني اليهودي خصوصاً في إصبع الجليل. على سببل المثال، الأمير خالد شهاب من حاصبيا باع أراضيه في سهل الحولة للصندوق القومي اليهودي.. عائلة سلام إحدى العائلات السنية الثلاث الأهم في بيروت لعبت دوراً رئيسياً في نقل أراضي الحولة (حوالي 57000 دونم) إلى شركة “تأهيل الإستيطان”، وفقاً لإتفاقية وُقِعّت في 28 تشرين الثاني 1934. سليم علي سلام (أبو علي) من زعماء المعارضة البيروتية للنظام اللبناني في الثلاثينيات، لعب دوراً مركزياً في المفاوضات التي استمرت 20 عاماً لبيع أراضي الحولة للإستيطان اليهودي. إبنه صائب سلام المتخصص في الإقتصاد والذي سيلعب أدواراً مهمة في السياسة اللبنانية على مدى أربعة عقود بوصفه ممثل النخب السنية البيروتية، كان شريكاً في المفاوضات مع شركة “تأهيل الإستيطان”. في إطار ذلك، إلتقى صائب (سلام) مع مسؤولي الشركة وشخصيات رفيعة في الحركة الصهيونية كما أنه وقّع إلى جانب موشيه شاريت ويعقوب طهون ويهوشواغ خنكين (من إدارة “تأهيل الإستيطان”) على اتفاقية بيع حقوق الملكية في أرض الحولة”.

من الشخصيات السنية أيضاً رياض رضا الصلح من مواليد صيدا 1896 وهو أقام هو أيضاً علاقات مع القيادة الصهيونية ( ومثله أبوه رضا الصلح في سنة 1911).. وطوال مسيرته السياسية، أبدى رياض الصلح استعداداً للحوار مع ممثلي الحركة الصهيونية (ولاحقاً مع ممثلي الحكومة الإسرائيلية)، علما أن الإتصالات بين الحركة الصهيونية وعائلة الصلح بدأت قبل الحرب العالمية الأولى.. فيكتور يعقوبسون ممثل الإدارة الصهيونية في القسطنطينية بين عامي 1908 و 1916 والمسؤول عن معالجة مشاكل العلاقات بين اليهود والعرب عمل على تطوير العلاقات مع النشطاء العرب في القسطنطينية من أجل دفعهم إلى التعاون مع اليهود. لأجل ذلك التقى هو ومساعدوه منذ 1911 عدة مرات برؤساء المنظمات والمنتديات العربية وبينهم رياض الصلح.

“الإتصالات بين الحركة الصهيونية ورياض الصلح وعن طريقه مع نشطاء الحركة القومية العربية استمرت حتى في السنوات التي تلت إنهيار حكم فيصل. في تشرين الثاني 1921 التقى حاييم فايتسمان (وايزمان) برياض الصلح في لندن. بعد ذلك ببضعة أشهر، وصل الصلح إلى القاهرة للمشاركة في مفاوضات بين مجموعة من نشطاء الحركة القومية العربية، ومعظمهم منفيون سوريون، ووفد من الحركة الصهيونية كان على تواصل مع فايتسمان.

“في الثلاثينات، جرت إتصالات بين رياض الصلح وزعماء الحركة الصهيونية، و في مطلع تموز 1934 “وصل الصلح الى القدس والتقى بن غوريون، حيث أعلن أنه مستعد للعمل من أجل تحقيق تفاهم عربي يهودي”.. الاجتماعات مع رياض الصلح إستمرت أيضاً في النصف الأول من الأربعينيات.. في الأعوام التي سبقت حرب الإستقلال (1943)، تبنى الصلح كرئيس لحكومة لبنان موقفاً مُعلَناً معادٍ للصهيونية، ولعب دوراً رئيسياً في المسار الذي أفضى إلى التدخل العسكري للدول العربية ومن ضمنها لبنان في حرب 1948، الأمر الذي لم يحُل دون استئناف الحوار بينه وبين ممثلين إسرائيليين في نهاية هذه الحرب.

خير الدين الأحدب

يتحدث الكتاب عن قيام حاييم كالفاريسكي مسؤول جهاز المخابرات في الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية بالتواصل مع صحافيين وبينهم اللبناني خير الدين الأحدب وذلك في بيروت في كانون الثاني 1930 . لدى سؤال الأحدب عما يريده مقابل خدماته (كتابة مقالات لمصلحة الوكالة)، طلب الأحدب الذي كان يملك صحيفة لبنانية 400 ليرة سنوياً.. في العام 1934 إنتخب الأحدب نائباً وفي 4 كانون الثاني 1937، عُيّن من قبل الرئيس إميل إده رئيساً للحكومة اللبنانية وفي 13 شبباط 1938، أفاد موشيه شاريت إدارة الوكالة اليهودية بأنه التقى بالأحدب الذي شكا له من أن المعارضة ضده وسط المسلمين السنة إزدادت كثيراً وطلب منه أموالاً لتعزيز مكانته. كما كتب الأحدب (عندما كان رئيسا للحكومة) الى شاريت قائلاً أن حكومته ستحاول “ضمان الأمن في الأراضي اللبنانية المحاذية لهذه المستوطنة (حانيتا)”، كما إستفادت الوكالة من دور بعض رجال الأحدب في التضييق على النازحين الفلسطينيين المقيمين في بيروت ودفعهم إلى مغادرتها.. في 19 آذار 1938، إضطر الأحدب إلى الإستقالة، وفي اليوم التالي، عُقِد لقاء في فندق السان جورج في بيروت بين ساسون والأحدب وفخري النشاشيبي، وقد تركز الحديث “على نشر مقالات في الصحافة اللبنانية (مدفوعة الثمن) وتفعيل فتوّات تابعين للأحدب في بيروت من أجل التضييق على الفلسطينيين”.

من المفيد هنا التذكير بما نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية، في عددها رقم 78 في ربيع 2009 من وثيقة للدكتور محمود محارب بعنوان “المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى(1936-1939 )”، وفيها لائحة بأسماء صحافيين عرب تواصلوا مع الوكالة اليهودية، وبينهم الأحدب، لقاء بدل مالي للتركيز على إثارة مواضيع طائفية تُحيِد الأنظار عن ثورة فلسطين.

الأمير خالد شهاب

أيضا إستلم الأمير خالد شهاب رئاسة الحكومة خلفاً لخير الدين الأحدب..” وكما الأحدب كان الأمير شهاب أيضاً معروفاً لدى الحركة الصهيونية قبل تعيينه رئيساً للحكومة”، يقول رؤوفين أرليخ، ويضيف أنه في نهاية تموز 1938، عقد ساسون لقاءين إضافيين مع خالد شهاب تمحورا، مثل اللقاءات السابقة، حول مواضيع عملية ذات طابع أمني اثارها ساسون ..” إلى جانب البحث في الموضوعات الأمنية، كان الأمير خالد شهاب مولجاً أيضاً بيع أراضٍ للإستيطان على مستوى واسع”(باع شهاب 1100 دونم في منطقة الخالصة (كريات شمونة اليوم) للوكالة اليهودية).


المقدم توفيق سالم

وإذا كان الفصل الثاني من الجزء الأول من كتاب “المتاهة اللبنانية” يعرض تفاصيل كثيرة حول خطط ونوايا الحركة الصهيونية للسيطرة على الجنوب اللبناني طمعا بمياه الليطاني والحاصباني، فإن الفصل الثالث يتحدث “عن مواجهة التهديدات الأمنية من الأراضي اللبنانية، فيقول: “إنه خلال فترة الثورة العربية التي بدأت في 19 نيسان 1936 واستمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية تحول لبنان للمرة الأولى إلى مصدر للمضايقات الأمنية للاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل. منطقة جنوب لبنان التي كانت تحت سيطرة الحكومة اللبنانية المركزية فيها أصلاً ضعيفة، وتحولت منذ 1936 إلى معقل للمجموعات الفلسطينية غير النظامية.. وفي التقارير التي وصلت إلى القسم السياسي من بيروت في آذار 1938 أفيد أن قطاع بلدة بنت جبيل هو الأكثر راحة في التسلل. يبدو أن سطوع نجم بنت جبيل في مساعدة جماعة المفتي (الحسيني) ليست عبثاً إذ أنها كانت تشهد حراكاً شديداً بفعل الظلم الإجتماعي اللاحق بها من الحكومة اللبنانية وكذلك بفعل المطالبة بالضم الى سوريا”. كما أن بنت جبيل لعبت لاحقا دورا أساسيا في الحرب التي خاضها جيش الإنقاذ في العام 1948.

ويشير الكتاب إلى أسباب عدة أدت إلى فشل جهود وقف تسلل المجموعات المسلحة من لبنان وكان ذلك سبباً لإقتراح قدمه موشيه شاريت صيف 1941 بجعل الليطاني حدوداً أمنية لأرض إسرائيل.( هواجس منع تسلل الفلسطينيين سواء كفدائيين أو مدنيين إلى الجليل كانت في صلب محادثات لجنة الهدنة)، ففي هذا الإطار، وبطلب من لبنان ،عقد في 7 نيسان 1956 إجتماع عاجل مع ممثلي إسرائيل في الناقورة “من دون علم الأمم المتحدة أو حضور مراقبين عنها. ونقل ممثل لبنان المقدم حسامي رسالة باسم رئيس الأركان اللبناني توفيق سالم جاء فيها أن لبنان غير معني بحصول مشاكل على الحدود”.. ونصح ممثل لبنان الجيش الإسرائيلي “باتخاذ إجراءات وقائية تشمل زيادة الدوريات والكمائن على الجانب الإسرائيلي”، وأضاف مخاطبا الوفد الإسرائيلي: “أقتلوهم من دون رحمة”( ص502).

ونشير هنا إلى كتاب بعنوان “بريطانيا والوحدة العربية-1945-2005″، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية للمؤرخ الدكتور علي محافظة وفيه يذكر “أن المقدم توفيق سالم الذي ترأس مفاوضات الهدنة بين لبنان واسرائيل عام 1949 كان يقوم بتسليم محاضر الاجتماعات السرية العسكرية للدول العربية المنعقدة في القاهرة عام 1953 (وصار لاحقا رئيساً للأركان في الجيش اللبناني) إلى الملحق العسكري البريطاني في سفارة بلاده في القاهرة”… ويروي رؤوفين أرليخ أن ديفيد بن غوريون وقيادة الجيش الإسرائيلي أهملوا محادثات مفتوحة على مدى شهر في باريس (بين منتصف تشرين الثاني ومنتصف كانون أول 1948)، عقدها رياض الصلح وإلياهو ساسون (ص278)، وذلك كونهم بدأوا يراهنون على قناة الإتصال الرسمية التي كانت تتطور مع رئيس أركان الجيش اللبناني الضابط توفيق سالم(ص287).


مكتب باريس “عنوان” للعرب

يتناول الجزء الثاني من الكتاب بعنوان “موقع لبنان في السياسة الإسرائيلية خلال فترة حرب الإستقلال ( 29 تشرين الثاني 1947-23 آذار 1949)، فيشير المؤلف رؤوفين أرليخ إلى إلى أن القيادة اللبنانية “لم تبد حماسة لإنضمام الجيش اللبناني عملياً إلى اجتياح الجيوش النظامية لأرض إسرائيل، لافتاً إلى ما قاله قائد الجيش يومها فؤاد شهاب بحسب تقرير إستخباري “أن جيشه هو فقط جيش دفاعي وليس جيشاً هجومياً” (ص197).

وفي هذا الجزء من الكتاب، يعرض مؤلفه للإجراءات العسكرية على الجبهة الللبنانية: معارك المالكية، موقع لبنان في إطار الإستراتيجية الإسرائيلية أثناء التهدئة، أي من التهدئة الثانية 18 تموز 1948 حتى عملية حيرام 18 تشرين أول 1948. وفي عملية حيرام هذه إجتاح الجيش الاسرائيلي أرض لبنان وسيطر على 15 قرية شيعية فيقول المؤلف “على وجه الخصوص برز الدمار في قرية حولة التي قتل 92 من سكانها في المعارك (مع العلم أن ما حصل في حولة (حولا) كان مجزرة أودت بحياة أكثر من مئة من المدنيين فيها).

يعرض الجزء الثاني وتحديدا في فصله السادس، “الإتصالات السياسية مع شخصيات ومجموعات لبنانية خلال حرب الإستقلال”( أي خلال نكبة 48 )، فيقول الكاتب أن الغاية من هذه الإتصالات كانت جزءاً من الجهود السياسية الشاملة التي وجهت للعالم العربي بدءاً من تموز 1948. وقد قسّم الشخصيات والمجموعات التي جرت إتصالات سياسية معها خلال فترة حرب الإستقلال إلى أربعة مجموعات أساسية:

  • إميل إده والمطران مبارك والكتائب وجهات مارونية في جنوب لبنان.
  • شخصيات في السلطة اللبنانية وأهمها رئيس الحكومة رياض الصلح، بضعة موظفين في وزارة الخارجية وسفراء في الخارج وشخصيات إعلامية ودينية.
  • الجمهور الشيعي في جنوب لبنان ولا سيما أحمد الأسعد.
  • الطائفة الدرزية.

وفي رسالته إلى موشيه شاريت بتاريخ 4 شباط 1949، يشير إلياهو ساسون إلى أربعة مجالات أفضى نشاطه في باريس إلى نجاحات فيها:

  • استئناف العلاقات مع معظم أصدقاء إسرائيل في الدول العربية.
  • إنشاء علاقات جديدة ووثيقة مع شخصيات عربية.
  • تحول المكتب في باريس إلى “عنوان” للزعماء العرب الذين أرادوا التواصل مع إسرائيل.
  • الإهتمام بطلاب عرب سيتحولون في المستقبل إلى عنصر متعاطف مع إسرائيل في بلادهم.

لائحة أسماء لبنانية تطول

يتطرق الجزء الثالث من كتاب “المتاهة اللبنانية” إلى “سياسة اسرائيل تجاه لبنان في الخمسينات 1949-1958″، وفيه إشارة إلى اقتراحات بن غوريون للقيام بمبادرة تجاه لبنان تؤدي إلى اقامة دولة مارونية ضمن حدود مقلصة، وتحويل لبنان إلى رافعة لتغييرات جوهرية في الشرق الأوسط بأكمله، كما حضرت نظرية حلف الأقليات في الفكر الصهيوني لمواجهة “صعود نجم مصر والناصرية في العالم العربي”، مع تشديد بن غوريون على نظرية التحالف مع تركيا وإيران وأثيوبيا والسودان، وبرأي المؤلف رؤوفين أرليخ، أنه أبّان الخمسينيات إحتل لبنان موقعاً ثانوياً في جدول أولويات السياسة الإسرائيلية، لكنه يركز هنا على دور كميل شمعون “الذي بادر أواخر كانون أول 1958 إلى الإتصال سراً بإسرائيل، ومعه أيضاً وزير الخارجية سليم لحود، والكولونيل فؤاد لحود، عبد الرحمن الصلح. وقد قدمت اسرائيل في صيف 1958 إلى نظام كميل شمعون مساعدة بالسلاح والذخيرة عبر قائد منطقة جنوب لبنان يومها الكولونيل فؤاد لحود وكلوفيس فرنسيس، وعلى ما قاله حميد فرنجية الذي أبدى حرصه مع تسيفي فايتسمان في بيروت في 15 كانون الأول 1949 على أهمية بقاء اليهود في لبنان “لأن له أهمية في التوازن العددي بين المسلمين وغير المسلمين”.

إلى جانب التواصل مع رياض الصلح، وردت أسماء كل من: ميشال شيحا، شارل الحلو سفير لبنان في الفاتيكان، أحمد الداعوق سفير لبنان في باريس، فؤاد عمون مدير عام وزارة الخارجية، الصحافي الشيعي فؤاد حاج علي مراسل الأسبوعية البيروتية “كل شيء” في باريس، فؤاد أفرام البستاني، تقي الدين الصلح المستشار في الأمانة العامة للجامعة العربية، سامي الصلح، أحمد الأسعد واللائحة تطول…

رياض الصلح على لائحة الإغتيال

لم تحُل لقاءات رئيس الحكومة رياض الصلح مع مسؤولين صهاينة من وضعه على لائحة الاغتيال كما يذكر المؤلف رؤوفين أرليخ ، فيكتب تحت عنوان “رياض الصلح – رئيس حكومة على المهداف” أن “علاقات رياض الصلح مع المشروع الإستيطاني اليهودي منذ مطلع القرن ولقاءاته السرية مع ممثلي وزارة الخارجية في صيف 1948 لم تمنع تحوله إلى هدف للإغتيال بعد إنتهاء المحادثات معه في باريس من دون نتائج. في 12 كانون أول 1948، بعد ثلاثة أيام فقط من اللقاء الأخير بين آرزي والصلح، أبلغت قيادة المستعربين من البلاد أمراً عبر اللاسلكي لغمليئيل كوهين قائد خليتي مستعربين في بيروت بتصفية رياض الصلح. هذا الأمر شكل بداية الإستعدادات العملية التي استمرت حتى 22 شباط 1949 موعد وصول أمر الغاء العملية من البلاد. خليتان من المستعربين بقيتا تعملان في بيروت طوال عامين وجمعتا المعلومات حول العملية، وتعقبتا الصلح يومياً في طريقه إلى البرلمان ذهاباً واياباً”.

وكتب رافي سيتون واسحاق شوشان في كتابهما “رجال السر والخفاء، بعض أنشطة الإستخبارات الإسرائيلية وراء الحدود” أنه في أعقاب جهد ميداني مكثف على مدى بضعة أسابيع، إكتشف شوشان “نقطة ضعف” في مسار مرور الصلح من بيته إلى البرلمان. كما أن غمليئيل كوهين الذي لعب دوراً في جمع المعلومات، يقول أنه شارك في مظاهرة تأييد للصلح في إحدى ساحات بيروت “ووصل إلى حد التماس معه ومع سيارته” (ص 290-291).[1]

العَمالة في إطار فكري

اللقاءات التي عقدها ممثلون عن الوكالة اليهودية مع أعيان وزعماء ورجال دين في سورية ولبنان، ومع رجال سياسة من ذوي المراتب العالية، كانت أمراً طبيعياً إلى حد ما، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أن بعض رجال الوكالة اليهودية كانوا من اليهود العرب الذين يتنقلون بين دمشق وبيروت والقدس بحرية تامة، أمثال إلياهو ساسون المولود في دمشق سنة 1902، والذي درس في الجامعة اليسوعية في بيروت، وله صداقاتٌ متشعبةٌ في دمشق وبيروت، أو أمثال إلياهو أبشتاين (إيلات). ومع أن إيلات مهاجر روسي إلى فلسطين، إلا أنه درس بين 1931 و 1934 في الجامعة الأميركية في بيروت التي كانت تُدعى الكلية الإنجيلية السورية"، وتعرّف، في أثناء دراسته، إلى جورج نقاش مؤسس صحيفة الأوريان، والنصير القوي للمشروع الصهيوني في فلسطين. والمعضلة ليست في مبدأ تلك اللقاءات ومبتدئها ما دامت مقصورةً على عرض الأفكار والآراء، ومحصورةً في مناقشة التصورات والمقترحات، بل المعضلة في الاتفاقات التي تمخضت عنها، مثل اتفاق الكنيسة المارونية والوكالة اليهودية، ففي 30/5/1946 صاغ إلياهو ساسون ويعقوب شمعوني الاتفاق المذكور، ووقعه في القدس برنارد جوزف (صار اسمه دوف يوسف) عن الوكالة اليهودية، وتوفيق عواد عن البطريركية المارونية.

وتوفيق عواد هذا غير الأديب اللبناني توفيق يوسف عواد صاحب "الرغيف" و "قميص الصوف" و "الصبي الأعرج". ويعترف الاتفاق بحق اليهود في أن تكون لهم دولة مستقلة في فلسطين، على أن تقوم في لبنان دولة مستقلة ذات طابع مسيحي. وفي تلك الفترة، كان في لبنان تيار سياسي وفكري، يعتقد أن قيام دولة يهودية في فلسطين، إلى جوار لبنان، من شأنه أن يضمن بقاء لبنان المسيحي، ويحمي وجوده، ويقف حائلاً دون سيطرة سورية على لبنان والأردن، ويوجه ضربة لفكرتي الوحدة العربية والعروبة معاً. ولاحظ رؤوفين إرليخ أن تيارين تبلورا في الوسط الماروني آنذاك: تيار انفصالي يرى في لبنان وطناً قومياً للمسيحيين مع هيمنة مارونية، على أن يتم تقليص حدوده، بحيث يتضاءل وجود المسلمين فيه، وكان على رأس هذا التيار إميل إدّة والبطريرك أنطوان عريضة والمطران أغناطيوس مبارك مطران بيروت للموارنة. وتيار آخر قَبِل بلبنان في حدوده التي أعلنها الجنرال غورو في سنة 1920، وكان أشهر ممثلي هذا التيار الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح وميشال شيحا (ص 32). ويروي الكتاب أن الصحافي إلياس حرفوش قال لإلياهو إيلات، حين التقاه في الولايات المتحدة الأميركية في 12/10/1946 إن الأوساط المارونية باتت تدرك أن من الضروري تقديم تنازل جغرافي لضمان الهيمنة المسيحية في لبنان، وأن من الضروري إعطاء صيدا وصور لإسرائيل المجاورة (ص 125).

أما فؤاد أفرام البستاني الذي التقى إلياهو ساسون وطوبيا أرازي في سبتمبر/ أيلول 1948، فقال إن من شأن الانتصار اليهودي في فلسطين أن يضمن الطابع المسيحي للبنان، ويعزّز الأقليات في الشرق (ص 301). ويذكّرنا هذا الكلام بموقف إميل إدّة من اقتراح المفوض السامي الفرنسي في لبنان، هنري دو جوفينيل، في سنة 1926 الذي أيد إعادة طرابلس وعكار إلى سورية لسبب وحيد، هو أن أغلبية سكان المنطقتين من المسلمين والأرثوذكس.

ظلت فكرة اقتطاع منطقة جنوب لبنان حتى نهر الأولي، وضمّها إلى إسرائيل، تراود ديفيد بن غوريون حتى العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956، ففي 19/10/1956 عرض بن غوريون خطة مجنونة على السفير الفرنسي في إسرائيل، وعلى أبا إيبان (كان مندوبا لإسرائيل في الأمم المتحدة) أيضاً، وكانت تحتوي النقاط التالية: إطاحة الرئيس جمال عبد الناصر. تقسيم الاردن للوصول إلى العراق. إرغام العراق على إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل. إرغام العراق على توطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيه، على أن تتكفل الولايات المتحدة تمويل ذلك. تقليص حدود لبنان بضم طرابلس وعكار وبعلبك إلى سورية، ثم إلحاق جنوب لبنان حتى الليطاني بإسرائيل، فيتحول لبنان بالفعل إلى دولة مسيحية (ص 419).


عمائم وتمائم وأسلحة وأموال

"كان في لبنان تيار سياسي وفكري، يعتقد أن قيام دولة يهودية في فلسطين، إلى جوار لبنان، من شأنه أن يضمن بقاء لبنان المسيحي، ويحمي وجوده" والمطران إغناطيوس مبارك كانوا صهيونيين حقاً. لكن صهيونيتهم لم تكن نابعةً من اعتباراتٍ لاهوتية مثلاً، بل من اعتبارات ديموغرافية (غلبة أعداد المسلمين على المسيحيين)، ومن خوفهم من ضم لبنان إلى سورية. وكانت علاقة قوية ربطت البطريرك عريضة بإلياهو إيلات، فور تنصيبه بطريركاً للموارنة في سنة 1932، وتكرّرت لقاءاتهما منذ تلك الفترة، وكان أشهرها الذي جرى في عرض البحر؛ ففي 2/5/1937 أبحر البطريرك عريضة إلى روما في طريقه إلى باريس على متن الباخرة ماركو بولو، وحجز إيلات على الباخرة نفسها التي شهدت محادثات متشعبة، طلب فيها إيلات من البطريرك إقناع البابا والمسؤولين الفرنسيين بأن تكون حدود لبنان ملاصقة لحدود الدولة اليهودية التي اقترحتها لجنة بيل، في سياق أفكارها لتقسيم فلسطين. وفي 4/1/1948، أي بعد نحو عشر سنوات من العلاقات المتينة، أرسل عريضة رسالةً إلى موشي شاريت مع مراسل صحيفة هآرتس السابق في بيروت، يعقوب فرنكل، طالبه فيها بمساعدة مالية، مذكّراً إياه بأن الوكالة اليهودية تعهدت له بدفع 20 ألف ليرة فلسطينية، ولم يحصل منها إلا على خمسة آلاف فقط (ص 48).

أما المطران إغناطيوس مبارك فقد أدلى بشهادة أمام اللجنة الأنكلو – أميركية، قال فيها: "إن الصهيونية تأتي بالحضارة إلى فلسطين وإلى الشرق الأوسط. أنا مؤيد للصهيونية من كل قلبي، لأن سلامة أرض اسرائيل غالية عليّ" (ص 45). وفي مقابلةٍ مع صحيفة فرانس سوار (7/5/1947) أعرب عن تأييده لإقامة دولة يهودية في فلسطين ووطن للمسيحيين في لبنان (ص267). وقد نقلت مجلة "كل شيء" اللبنانية نص تلك المقابلة في 14/5/1948. وفي رسالة من المطران مبارك، كان أرسلها إلى سكرتير لجنة unscop إميل ساند ستروم في سنة 1947 فصّل الأسباب التي دعته إلى الإيمان بأن لبنان وفلسطين يجب أن يكونا وطنَين قوميَين للمسيحيين واليهود (ص 45). وقد تعرّض مبارك لهجوم عنيف من الحكومة اللبنانية، لدفعه إلى التنصل من تلك الرسالة، وطلبت الحكومة التي أحرجتها مواقف المطران من البابا الضغط عليه لتغيير موقفه، لكنه لم يتراجع، مع أن النواب المسيحيين هاجموه بشدة. واستنكف إميل إدّة والبطريرك عريضة، لأسباب سياسيةٍ مؤقتة، عن مؤازرته. وهنا توجه المطران مبارك إلى الوكالة اليهودية (في أغسطس/ آب 1947)، وطلب إليها إعداد خطة عسكرية وسياسية لانتفاضة مسيحية في لبنان. وقال إنه يحتاج سلاحا وخبراء، وهو مستعد لإرسال شبان إلى فلسطين للتدرب على القتال لدى الهاغاناه، كما يحتاج إلى مساعدة مالية لشراء الصحافة وتمويل أنصاره، وكان مبعوثه إلى الوكالة اليهودية توفيق عواد (توتو عواد). وقد دفعت له الوكالة 2500 ليرة (جنيه فلسطيني)، وأرسلت موفداً خاصاً إلى بيروت، كي يتواصل مع المطران مبارك، خشية إن يضع توفيق عواد بعض الأموال في جيبه (ص47).

يعتبر الرئيس إميل إدّة من الصهيونيين اللبنانيين من دون أي تحفظ؛ فهو التقى إلياهو إيلات مراراً بين 1931 و 1934، وأقام وإياه علاقة ثابتة في عام 1936 بعد أن نصّبه الفرنسيون رئيساً للجمهورية. وفي 22/9/1936 التقى إيلات في بيروت بطلب من حاييم وايزمان، وأعرب له عن استعداده للسماح بتوطين مئة ألف يهودي بين صيدا وصور (ص 120)، أي جنوبي نهر الأولي، وهي المنطقة التي عملت الحركة الصهيونية على إلحاقها بالدولة اليهودية، وعمل معها كثيرون من أعوانهم اللبنانيين على إفراغها من سكانها الشيعة، ونقلهم إلى العراق. وكان إميل إدّة التقى حاييم وايزمان في باريس في 22/6/1937، ثم في سنة 1946، اجتمع إلى ديفيد بن غوريون في باريس، ومعه رؤوفين شيلواح. وفي يوليو/ تموز 1948، التقى إميل إدّة للمرة الثانية طوبيا أرازي (من الاستخبارات)، وحثّه على إقناع حكومة اسرائيل باحتلال أراضٍ واسعة في جنوب لبنان، تصل حتى صيدا، وبضرورة قصف دمشق بالطائرات، وإلقاء آلاف المناشير فوق بيروت تهدّد الحكومة اللبنانية (حكومة بشارة الخوري ورياض الصلح) بأنها، في ما لو لم تغير سياستها تجاه اسرائيل، ستتعرّض للقصف، ثم، في أثر ذلك، يغزو الجيش الإسرائيلي لبنان حتى صيدا. وحينذاك ستتمكّن المعارضة (أي إدّة وأنصاره وأمثاله) من القيام بانقلاب عسكري وإسقاط حكومة رياض الصلح، وتأليف حكومة جديدة.

خلافاً للصورة الشائعة عن الرئيس بشارة الخوري التي تشير إلى اقتناعه بالتسوية التاريخية في لبنان بين تياري الوحدة السورية والحماية الفرنسية، فإن بشارة الخوري، بحسب كتاب "المتاهة اللبنانية"، لم يتورع في سنة 1941 عن الإفصاح لإلياهو ساسون بالقول: "يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمّة ضرورة لإخلائة من سكانه الشيعة (...)، وإسكانه بالموارنة المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية". واقترح بشارة الخوري أن يُقرض المشروع الاستيطاني اليهودي البطريرك عريضة مبلغاً من المال لشراء جبل عامل، وتوطين الموارنة فيه، ليكونوا جيراناً لليهود (...)، لأن تنفيذ هذه الفكرة سيتيح لليهود والموارنة

الوقوف كتفاً واحداً ضد التيار العربي في الشرق (ص 52). ويكشف الكتاب أيضاً المساعدات التي قدمتها إسرائيل للرئيس كميل شمعون إبّان حوادث 1958، والدور الذي أدّاه العقيد فؤاد لحود في هذا الأمر (ص546 و547). كما يكشف قصة الأسلحة الإيرانية التي كانت تُرسل إلى كميل شمعون بطائرة داكوتا تنطلق من قاعدة عكرون الجوية الإسرائيلية إلى أحد المطارات اللبنانية. وكان الجنرال تيمور بختيار هو منسق العملية مع الإسرائيليين، فيما كان الأمير فريد شهاب، مدير الأمن العام اللبناني، ضابط الإرتباط بين شمعون والإيرانيين (ص 546 و547). ولمزيدٍ من الفضائح، كشفت وثائق هذا الكتاب أن العقيد فؤاد لحود والسفير عبد الرحمن الصلح توجّها في الأسبوع الأخير من ديسمبر/ كانون الأول 1955 إلى سفارة إسرائيل في اسطمبول، وطلبا لقاء ممثلين عن دولة إسرائيل. وتبين أن سامي الصلح وسليم لحود (الطامح إلى رئاسة الجمهورية والذي التقى لاحقاً رؤوفين شيلواح في روما في 20/6/1958) هما مَن أرسلا فؤاد لحود وعبد الرحمن الصلح بهذه المهمة. وقد عُقد اجتماع في 30/12/1955 بين يوفال نئمان (من الجيش الإسرائيلي) وموشى ساسون إبن الياهو ساسون (من وزارة الخارجية) وبين العقيد فؤاد لحود (من الجيش اللبناني) وعبد الرحمن الصلح (من وزارة الخارجية)، وتباحث الجميع في كيفية التصدي لسورية، في محاولتها ضم لبنان إلى اتفاق عسكري مشترك، وطلب لحود والصلح المساعدة بالسلاح والمال، لإحباط مساعي سورية (ص481 و543). وبعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، غداة الانتفاضة المسلحة على حكم كميل شمعون، اعتقل فؤاد لحود بتهمة التآمر على الرئيس شهاب، والعمل على تمهيد السبل لانتخاب أخيه سليم رئيساً للجمهورية بدلاً منه. وفي ما بعد، تبين أن فؤاد لحود كان يقيم علاقةً بالمخابرات السورية، في الوقت الذي كان يبحث فيه مع الإسرائيليين إرسال المال والسلاح للتصدّي للنفوذ السوري في لبنان (يا للشطارة!)، وأن لحود (صار نائباً في البرلمان اللبناني) كشف بنفسه للمخابرات السورية قصة الاستعانة بالإسرائيليين (ص 549).


أعيان الساحل والداخل

ثلاثة رؤساء جمهورية في لبنان (بشارة الخوري وإميل إدة وكميل شمعون)، وثلاثة رؤساء حكومات (رياض الصلح وخير الدين الأحدب وخالد شهاب) كانت لهم علاقات متفاوتة في الانتهازية المصلحية مع الحركة الصهيونية. ولم يقتصر التيار الانتهازي في الحركة القومية العربية على أعيان الساحل المركنتليين في لبنان وحده، بل امتد إلى الشام والعراق، ومن أَعلامه نوري السعيد في العراق وفوزي البكري ونسيب البكري ولطفي الحفار في دمشق وغيرهم كثيرون. ولعل أبرز هؤلاء رياض الصلح عضو حزب الاستقلال العربي، والذي تولى والده رضا الصلح وزارة الداخلية في الحكومة الفيصلية الأولى في دمشق سنة 1919. وعلاقة رياض الصلح برجال الهيئة التنفيذية الصهيونية في فلسطين (الوكالة اليهودية لاحقاً) قديمة جداً، وهي تعود إلى سنة 1920، حين سافر حاييم كالفاريسكي إلى دمشق بسيارة رياض الصلح نفسه. وفي سنة 1921 التقى الاثنان في لندن. وفي سنة 1934 وصل الصلح إلى القدس، والتقى دافيد بن غوريون. وفي سنة 1936، التقى الصلح حاييم وايزمن في القدس. وفي سنة 1940، التقى الصلح إلياهو ساسون وإلياهو إيلات في بيروت. وفي سنة 1934، التقى الصلح كالفاريسكي نحو خمس مرات، الأمر الذي أثار ريبةً كيبرة. أما الريبة الأكبر، فكانت اتصالات الصلح بإلياهو ساسون وفريق عمله بعد قيام دولة إسرائيل. ففي 1/7/1948 سافر ساسون إلى باريس، ومعه طوبيا أرازي وزياما ديبون، ثم التحق بهم سليم بيخور، وهو يهودي عراقي، وانضمت إليهم يولندا هارمر، وألّف هؤلاء مجموعة استخبارية، مهمتها معاودة الاتصال بالنخب السياسية العربية ممن صار التواصل معها متعذّراً بعد قيام إسرائيل. وفي 19/9/1948، وصل إلى باريس رياض الصلح، لحضور الدورة الثالثة للأمم المتحدة. وفي 15/10/1948، التقت يولندا هارمر الصلح بحضور زهير عسيران، واتفقا على عقد اجتماعاتٍ مع ساسون وأرازي. وبالفعل التقى ساسون وأرازي رياض الصلح على مدار ستة اجتماعات في فندق بريستول، وقد تسرّبت أنباء تلك الاجتماعات السرية إلى كينيث بيلبي، مراسل صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون، فنشرها في يناير/ كانون الثاني 1949، ثم ترجمت صحيفة النهار ما جاء في "نيويورك هيرالد تريبيون" في 21/1/1949. وعلى الفور، دهمت الشرطة اللبنانية المكتبات، وصادرت نسخ "النهار".

أما خير الدين الأحدب فالتقى كالفاريسكي في بيروت في سنة 1930، وطلب في اللقاء 400 ليرة فلسطينية لقاء خدماته للوكالة اليهودية، ورست المفاوضات على 200 ليرة تدفع على أربع دفعات. وفي سنة 1938، زار الأحدب القدس والتقى ساسون في منزل فخري

النشاشيبي قائد "فصائل السلام" المعادية للحركة الوطنية الفلسطينية بزعامة الحاج أمين الحسيني. وطلب دعماً مالياً للوقوف في وجه المفتي الذي لجأ إلى لبنان في سنة 1937 (راجع: ليئورا أيزنبرغ، عدو عدوي، ص 248). والمعروف أن خير الدين الأحدب وصفي الدين قدّورة وجوزف خديج وميشال سارجي ومراد دانا وإلياس الحاج أسسوا شركة لشراء الأراضي، وبيعها من الوكالة اليهودية، وسجلوا الشركة في بيروت في 19/8/1935. وقد نشرت صحيفة "ألف باء" الدمشقية في 7/8/1937 وثيقة تأسيس تلك الشركة. وعلى غرار الصلح والأحدب، التقى ساسون خالد شهاب الذي تولى رئاسة الحكومة في 21/3/1938 بعد استقالة خير الدين الأحدب (ص 104). والشائع عن الأمير خالد شهاب أنه "لم يبع" أراضيه في فلسطين لرجال الوكالة اليهودية (جاع وما باع). لكن كتاب يوسيف نحماني "مذكرات سمسار أراضي صهيوني" (دمشق: دار الحصاد، 2010، ترجمة إلياس شوفاني) يكشف أن السبب في عدم إتمام البيع هو الاختلاف على السعر (ص 75)، وأن الوسيط بين شهاب ونحماني كان إلياس بشوتي الذي فاوضه على شراء أربعة آلاف دونم في قرية الغابسية بسعر 19 ليرة فلسطينية للدونم الواحد (ص 159)، لكن خالد شهاب طلب 21 ليرة. وعلى منواله، فاوض سليم علي سلام (من أعيان بيروت) شركة تأهيل الاستيطان على شراء حقوق الملكية في سهل الحولة (165 ألف دونم)، وشارك إبنه صائب سلام (رئيس الحكومة في ما بعد) في تلك المفاوضات التي انتهت إلى توقيع صائب سلام وموشي شاريت ويعقوب طهون ويهوشواع حانكين اتفاقية بيع 57 ألف دونم من أراضي الحولة (ص 88). وفي وثائق الكتاب صورة عن عقد البيع، ممهوراً بتوقيع صائب سلام عن "الشركة السورية العثمانية الزراعية" (ص 660).


أذلاء ومهانون

لم يبقَ أحد، كما يلوح لي، لم يجتمع إلى الإسرائيليين في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته وأربعينياته. كانت لقاءات بعض هؤلاء معتادة وعابرة، ولم تؤسس أي علاقة أو عمالة. وبعضهم انساق في مصالحه بعيداً، فلم يرَ في الصهيونية والمستوطنين اليهود المهاجرين إلى فلسطين خطراً مقبلاً، فبقيت مواقفه باردة بلا حميّة قومية. وبعضهم تعاون مع الصهيونية، وسار معها كالذليل المبتذل. وفي قائمة الذين لم يتورّعوا عن تقبيل وجنات المبعوثين أسماء معروفة، أمثال فؤاد عمون وأحمد الداعوق وتقي الدين الصلح وزهير عسيران وعبد الرحمن الصلح وإلياس ربابي وفؤاد لحود ومحمد علي حمادة (يعتقد المؤلف أنه شيعي، بحسب ما جاء في الصفحة 380، ولعله والد الوزير اللبناني مروان حمادة والشاعرة نادية تويني زوجة غسان تويني ووالدة الصحافي جبران تويني. وإذا صحّ ذلك يكون درزي المذهب وليس شيعياً)، فضلاً عن بيار إدّة وإميل إدّة وبشارة الخوري وفؤاد أفرام البستاني وحميد فرنجية والشيخ حسين حمادة وسعيد حمادة وصبري حمادة وأحمد الأسعد ونظيرة جنبلاط وشارل حلو وميشال شيحا وإلياس حرفوش ورياض الصلح والمطران أغناطيوس مبارك والبطريرك أنطوان عريضة وسلوم مكرزل وخير الدين الأحدب وتوفيق هولو حيدر وخالد شهاب وسليم علي سلام ومحمد العبد الله وبيار الجميل ونجيب صفير وألفرد نقاش وسليم لحود وشارل مالك والبطريرك المعوشي وكمال جنبلاط وسامي الصلح. غير أن هؤلاء لم يكونوا من صنفٍ واحد، فبعضهم كان لقاؤهم ممثلي الوكالة اليهودية عابراً، وبلا أثر، وفي أحوالٍ طبيعيةٍ من الإتصال باليهود

العرب. وبعضهم كان مبعوثاً إلى تلك اللقاءات، مع أن في استطاعته أن يرفض تلك المهمة المُهينة. وبعضهم أوغل في عمالته، حتى صار فيدكين كويزلنغ ملاكاً قياساً على هؤلاء، أمثال خيرالدين الأحدب وإلياس ربابي وإميل إدّة وإلياس حرفوش والمطران مبارك والبطريرك عريضة وسلوم مكرزل ونجيب صفير وآخرين، وكويزلنغ مواطن نرويجي عمل مع الجيش النازي إبّان احتلال ألمانيا النرويج، وبعد انزياح الاحتلال أُعدم في سنة 1945بتهمة العمالة، وصار اسمه مصطلحاً يدلّ على "مَن باع وطنه". وما برح هؤلاء حتى اليوم يتناسلون بأسماء وهيئات مختلفة، أمثال الشاعر المصري نبيه سرحان (أو يوسف سمير) وشريف الفيلالي ومصعب حسن يوسف وعدنان ياسين وحسن هاشم (رئيس الهيئة التنفيذية في حركة أمل سابقاً) وكمال اللبواني وفريد الغادري وأمينة المفتي ومعصوم فيصل العمري (من حزب اليسار الكردي في سورية) وأنطوان لحد وسعد حداد.

لم يرتدع أحد من هؤلاء؛ فالتاريخ لا يعظ، والعملاء لا يتعظون. والهواء العربي (إقرأ: الهوان العربي) مشبعٌ بالأبخرة السامة، من أمثال الشاعر العراقي نجم والي والمخرجة التونسية نادية الفاني والروائي الجزائري بوعلام صنصال والمغني الجزائري فرحات مهني والشيوعي الجزائري جان بيار ليدو الذي كتم صهيونيته حتى وقع العدوان الاسرائيلي على غزة في سنة 2009 فجاهر بها، علاوة على العنصريين أمثال المذيعة المصرية عزة سامي التي شكرت نتنياهو على دك قطاع غزة، وماتت بعد ذلك مباشرة. وأمثال توفيق عكاشة المحتال الذي زوّر شهادة دكتوراه، فيما هو لا يسوى في عالم الإعلام شروى نقير، والكاتبة لميس جابر ومعها أماني الخياط. وعلى سبيل المثال في الذل والمهانة إلياس ربابي (رئيس تحرير صحيفة العمل الكتائبية) الذي راح يتبجح أمام جدعون رفائيل في 12/12/1950 بأن عدد أعضاء حزبه بلغ إلى 60 ألفاً، وأن الحزب سيخوض الانتخابات للحصول على أربعة مقاعد نيابية، ولهذه الغاية فهو يريد مساعدة مالية "حرزانة" (ص 569). وقد أوصى رفائيل رؤساءه بدفع ما بين خمسة آلاف دولار وعشرة آلاف له، غير أن يهوشواع فلامون لم يدفع له إلا ألفي دولار. وفي تلك الانتخابات، لم يفز أحد من حزب الكتائب. وفي واقعة أخرى، اعتقل الجيش الإسرائيلي متسللاً فلسطينياً مارونياً، ووجد في جيبه رسالةً يطلب فيها المطران مبارك من السلطات الإسرائيلية مساعدة ذلك المتسلل، وعدم طرده من الأراضي الفلسطينية التي صارت محتلة آنذاك، غير أن السلطات الأمنية الإسرائيلية قبضت على المتسلل، وحققت معه، ثم طردته إلى لبنان من حيث أتى. وهنا طلب يهوشواع فلامون من الأب شاهين (رئيس دير للموارنة في يافا) إبلاغ المطران مبارك ألا يعتبر نفسه قنصل إسرائيل في لبنان، وألا يخوِّل نفسه صلاحية منح تأشيرات الدخول إلى إسرائيل (ص 583).

أغلاط لا تُحتمل

عمد المترجم، خلافاً للأصول العلمية، إلى وضع الإيضاحات والجمل التفسيرية التي رأى أنها ضرورية لجلاء النص، بين هلالين في المتن، وهذا لا يجوز إطلاقاً. وكان عليه إما أن يستخدم أسفل الصفحة ليضيف ما يشاء من التفسيرات الإيضاحية، أو، إذا أصرّ على وضعها في المتن، أن يجعلها بين مركّنين، أي بين قوسين كبيرين ... هكذا [----]. هنا، في هذا الكتاب، اختلطت الأمور، فما عدنا ندري هل إن الفقرات الواردة بين هلالين (---) من إضافات المترجم، أم هي من النص الأصلي. ويبدو أن أكثر من يدٍ بلّت أصابعها في هذه الترجمة، فمرة يرد شاريتوك (ص717 و 728) ومرات يرد بصيغة شاريت، وهو الصحيح. ومرة ترد قرية حولا باللام ألف، ومرات ترد الحولة بالتاء المربوطة (وهي الصحيحة)، علماً أن ثمّة قرية حدودية لبنانية معروفة هي حولا، الأمر الذي خلطها بسهل الحولة. ويرد عزرا دانين في الصفحة 258، وبعد خمسة سطور يرد بصيغة أخرى، هي عزرا دانون. وعلى هذا المنوال، قرأنا اسم إلياس ربابي تارة وإلياس ربابا تارة أخرى (ص 827 و829). والمعروف أن ألفاء والباء يتبادلان في العبرية بطريقة عشوائية، فنكتب تل أفيف ونلفظها تل أبيب. ونكتب أيضاً دابار (دافار) وبنحاس (فنحاس) ورؤوبين (رؤوفين).. إلخ، وكان على المترجم ضبط طريقة رسم الأسماء العبرية بحسب الشائع في اللسان العبري اليوم، والعودة في ذلك إلى أصحاب الاختصاص والمعرفة، فلا يبقى إسم طوبيا أرازي يرد طوفيا آرزي مرة (ص 162)، وطوبيا آرزي مرة (ص 164) وطوبي آرزي حيناً (ص 248) وتوفيا آرزي حيناً آخر (ص 77)، والصحيح هو أرازي Arazi دائماً. وعلى هذا النحو، ورد إلياهو أفشتاين (ص 26)، والصحيح: أبشتاين، وآرثور روفين (ص31 و120)، والصحيح: آرثر روبين، وحاييم فايتسمان (ص34،35، 85،...)، والصحيح: وايزمان، وتشارلز فينغايت (ص 143)، والصحيح: وينغيت، وزروففل (ص748) وهو زروبابل، وتفناكين (ص 759)، والصحيح: طبنكين، وآبا إيفين (ص 319 وفي صفحات أخرى كثيرة) وهو أشهر مَن أن يعرّف واسمه أبا إيبان، ووحدة هاركيفي (ص457)، والصحيح: هاركابي.

يعج الكتاب بالأغلاط مما لا يمكن احتماله، ففي الصفحة 86 ورد اسم يوسف العصمي (ورد العصيمي في ص 867)، والصحيح في الحالين: يوسف العيسمي، وهو والد المفقود شبلي

العيسمي. ومن غرائب الأغلاط وعجائبها ما ورد في المصادر (ص 771)، فقد قرأنا "رسالة ساسون إلى رياتش باي تسيلح (الهامشان 82 و96). وبعد التدقيق، تبين أن المقصود هو رياض بك الصلح الذي تحوّل علي يدي المترجم إلى رياتش باي تسيلح. وتشيع في الترجمة عدم الدّقة، وعلى سبيل المثال ورد في ص 445 الرائد جمال محمد، وبعده بصفحة ورد الرائد جمال حمّاد (وهو الصحيح). وفي الصفحتين 457 و458 وردت "مجموعة عبد الرحمن"، والصحيح: جماعة عباد الرحمن، وشتان ما بينهما. وعلى هذا المنوال، ورد اسم عبد الحكيم عمار (ص821) والصحيح: عبد الحكيم عامر. ثم ورد اسم توفيق حلو حيدر (ص70 و141)، والصحيح: توفيق هولو حيدر، ومثل ذلك كثير جداً.

ثمّة أغلاط فادحة أخرى في غير مكان من الكتاب، مثلاً ورد المرجع التالي: "الجزء الثالث من كتاب "المشكلة الفلسطينية والخطر الصهيوني" الذي صدر عن هيئة الأركان العامة للجيش اللبناني ومعهد الدراسات الفلسطينية في بيروت" (ص 179 و201). وفي هذه الفقرة أربعة أغلاط: أولاً، لا يوجد جزء ثالث من هذا الكتاب ولا جزء ثانٍ، والمقصود: الفصل الثالث. ثانياً، عنوان الكتاب الصحيح هو: "القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني". ثالثاً، الكتاب صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية وليس عن معهد الدراسات الفلسطينية. رابعاً، شريك المؤسسة في إصدار الكتاب ليس هيئة الأركان العامة للجيش اللبناني بل وزارة الدفاع الوطني – الجيش اللبناني – الأركان العامة – الشعبة الخامسة، ويمكن الاكتفاء بـِ "وزارة الدفاع الوطني". وكذلك ورد الاسم التالي: كريستيان شولتس (ص481 و823)، والصحيح أنه أنثى ويكتب: كريستين شولتزه. وورد أيضاً "عقيدة آيزنهاور" (ص 424)، والمأنوس هو "مبدأ آيزنهاور".

وفوق ذلك، فإن فهرس الكتاب طويل جداً جداً، ولا يعكس أسماء الأعَلام والأماكن والجماعات والمؤسسات الواردة فيه ألبتة. ومع ذلك، فإن إغلاط المتن انتقلت إليه مع أغلاط الفهرسة. وعلى سبيل المثال، ورد أنطونيوس خريش ثم بطرس خريش وهما واحد (أنطونيوس بطرس خريش). ولم يُقلب اسم غسان جديد مثل باقي الأسماء. وحين أراد المفهرس قلب اسم جمال عبد الناصر أعيته معارفه فجعله هكذا: (الناصر، جمال عبد)، وكان عليه، لو كان يعرف، أن يفهرسه على النحو التالي: عبد الناصر، جمال. وهذا غيضٌ من فيض الأغلاط التي شاعت وفشت في هذا الكتاب المهم الذي يجب أن يصل، ولو بأغلاطه، إلى أوسع مدىً من القراء العرب.[2]


انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ منى سكرية (2019-09-20). "المتاهة: أسرار العلاقات اللبنانية ـ الإسرائيلية". 180post. Retrieved 2025-02-20.
  2. ^ "الوكالة اليهودية وعلاقاتها في لبنان.. رؤوفين إرليخ يفضح أسماءً". foundation. 2025-02-03. Retrieved 2025-02-20.