محكمة شرعية (مصر)
المحاكم الشرعية في مصر كانت قائمة منذ الدولة العثمانية وكانت تنظر في مجموعة واسعة من النزاعات، بما في ذلك القضايا المدنية والتجارية والجنائية، بالإضافة إلى مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين. كما كانت تنظر في القضايا المتعلقة بالوقف الإسلامي.
التاريخ
في عام 1856 أُنشئت في مصر محاكم عُرفت باسم «المجالس القضائية المحلية»، وكانت تفصل في المنازعات وفقًا لأحكام الخط الهمايوني. ومع مرور الوقت، تشعّب نظام القضاء في مصر نتيجة المعاهدات الدولية والامتيازات الأجنبية. وفي عام 1870 تأسست «المحاكم المختلطة»، التي استندت في تنظيمها وأحكامها إلى القوانين الفرنسية. ثم صدر عام 1883 تنظيم جديد للمحاكم النظامية، منحها جانبًا كبيرًا من اختصاصات المحاكم الشرعية، فاقتصر دور الأخيرة على مسائل الأحوال الشخصية فقط. وفي عام 1955 أُلغي نظام المحاكم الشرعية نهائيًا بموجب قانون توحيد الهيئات القضائية، الذي نقل اختصاصاتها إلى المحاكم العادية.
إلغاء المحاكم الشرعية في مصر
لم يكن أحد يتخيل أن يُسدل الستار على نظام المحاكم الشرعية في مصر، وهي أقدم مؤسسات القضاء في العالم العربي، والتي ظلت قائمة قرونًا حتى منتصف القرن العشرين، بقرار إداري مفاجئ في سبتمبر 1955. والأكثر صدمة أن يكون هذا الإلغاء قد جاء عقب ما عُرف إعلاميًا وقتها بـ"ملف الدعارة"، وهي القضية التي اتُّهم فيها اثنان من كبار قضاة المحاكم الشرعية في فضيحة أخلاقية وُصفت بأنها الأخطر في بدايات عهد ما بعد 23 يوليو.[1]
غير أن قراءة القضية بعين التاريخ، لا بعين البلاغات الرسمية والعناوين الصحفية، تفتح بابًا واسعًا للتساؤل: هل كانت الفضيحة سببًا حقيقيًا لإلغاء المحاكم الشرعية، أم مجرد أداة لتهيئة الرأي العام لقرار كان قد اتُّخذ سلفًا؟
بحسب ما أورده الكاتب ياسر بكر، بدأت القصة بخبر صحفي عن ضبط كل من الشيخ عبد الفتاح سيف، وكيل محكمة الإسكندرية الشرعية، والشيخ عبد القادر الفيل، قاضي محكمة المنشية الشرعية، داخل إحدى الفيلات في حالة تلبس، بتهمة تلقي "رشوة جنسية" من ثلاث نساء متقاضيات، مقابل إصدار أحكام لصالحهن.
ألقي القبض على القاضيين، والنساء الثلاث، ومحاميهن، إضافة إلى ابني صاحب الفيلا وشقيقتهما المطلقة "سعاد". ووجهت النيابة اتهامات ثقيلة للشيخين شملت: قبول الرشوة، استغلال النفوذ، وحيازة مخدرات، وأمرت بحبسهما في سجن الحضراء، الزنزانة رقم 22، مع حبس عدد من المتهمين الآخرين.
امتدت التحقيقات إلى داخل المحكمة الشرعية نفسها، حيث كُلِّف وكيل نيابة العطارين بفحص الملفات وسؤال الموظفين عن سلوك القاضيين. وجاءت شهادة حاجب المحكمة، محمد مختار، لتؤكد أن الشيخ عبد القادر الفيل كان يستقبل بعض المتقاضيات في غرفة المداولة، وهي شهادة لعبت دورًا محوريًا في مسار القضية.
أُحيلت القضية إلى المحكمة، وصدر الحكم برئاسة المستشار محمد كامل البهنساوي، فجاءت الأحكام قاسية:
- الأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة ألفي جنيه للشيخ عبد القادر الفيل، مع براءته من تهمة الزنا.
- الأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة مماثلة للشيخ عبد الفتاح سيف.
- السجن خمس سنوات وغرامة 500 جنيه لابني صاحب الفيلا.
- السجن سبع سنوات وغرامة 500 جنيه لكاتب المحامي الشرعي، درويش مصطفى.
- براءة جميع النساء.
وبدرامية سياسية كاملة، صدر بعدها قرار إلغاء المحاكم الشرعية نهائيًا، وكأن القضية لم تكن مجرد محاكمة جنائية، بل مشهدًا أخيرًا في مسرحية إغلاق مؤسسة كاملة من مؤسسات الدولة.
بعيدًا عن الرواية الرسمية، تكشف أوراق الدعوى نفسها أن شخصية درويش مصطفى، كاتب المحامي الشرعي، كانت المحور الحقيقي للأحداث. فقد علم بتكليف القاضيين لبعض الموظفين بالبحث عن فيلا لاستئجارها لأقارب أحدهما لقضاء المصيف، فأوهمهما كذبًا بامتلاكه الفيلا المناسبة وحدد موعدًا للمعاينة.
في الوقت ذاته، أوهم النساء المتقاضيات في مكتب المحامي بأنه قادر على ترتيب لقاء خاص مع القاضيين خارج المحكمة لضمان أحكام لصالحهن. كما أقنع ابني صاحب الفيلا بإمكانية استخراج حكم لصالح شقيقتهما "سعاد" بشرط تجهيز سهرة للقاضيين.
هنا يبرز السؤال الأخطر: لماذا هذان القاضيان تحديدًا؟
الشيخ عبد القادر الفيل لم يكن مجرد قاضٍ شرعي، بل كان معروفًا بموقفه الرافض لحركة 23 يوليو. وقبل أشهر قليلة من القضية، أصدر حكمًا ضد الصاغ صلاح سالم – أحد أبرز ضباط مجلس قيادة الثورة – ألزمه فيه بدفع نفقة شهرية لمطلقته. حكمٌ صغير في ظاهره، لكنه كبير في دلالته، إذ كسر هيبة "الضباط الأحرار" أمام قاضٍ شرعي مستقل.
من هنا، يرى كثيرون أن القضية لم تكن سوى أداة لإقصاء قضاة غير موالين، وتمهيد الطريق لإنهاء نظام قضائي كامل لا يخضع للسلطة الجديدة.
زاد الغموض عندما لقي المستشار محمد كامل البهنساوي، الذي أصدر الحكم، مصرعه بعد أقل من عام في حادث غامض على كوبري قصر النيل، برفقة وكيل وزارة الداخلية، عقب مغادرتهما نادي الجزيرة. فرّ قائد السيارة، وقُيِّد الحادث ضد مجهول، ودُفنت معه أسرار القضية إلى الأبد.
يُسجَّل إلغاء المحاكم الشرعية ضمن ما سُمِّي يومًا بـ"إنجازات الزعيم جمال عبد الناصر". لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد سبعة عقود:
هل كان ما جرى تطهيرًا لمؤسسة قضائية، أم تصفية سياسية مغلّفة بفضيحة أخلاقية؟
بين الرواية الرسمية ورواية التاريخ، تبقى قضية "ملف الدعارة" شاهدًا على مرحلة تأسيس السلطة في مصر الحديثة، حيث لم تكن القوانين وحدها تُلغى، بل كانت تُلغى معها مؤسسات كاملة، وقضاة، وتقاليد قانونية ضاربة في عمق التاريخ.
المصادر
- ^ "قصة ملف الدعارة الذي أنهى المحاكم الشرعية في مصر: بين الفضيحة والتصفية السياسية". حزب تكنوقراط مصر. 2025-12-21. Retrieved 2025-12-22.