صنع الله إبراهيم

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم.jpg
وُلِدَ(1937-02-24)24 فبراير 1937
توفي13 أغسطس 2025(2025-08-13) (aged 88)
القاهرة، مصر
القوميةمصري
المهنةكاتب وروائي

صنع الله إبراهيم (و. 24 فبراير 1937 - ت. 13 أغسطس 2025)، هو كاتب قصص قصيرة وروائي مصري ومن أبرز الروائيين في "الستينيات". يُعرف صنع الله بتوجهاته اليسارية التي تنعكس بشكل كبير في أعماله.[1]

السنوات المبكرة

وُلد صنع الله إبراهيم عام 1937. .[2][3] وكان والده في الستين من عمره ولم يُرزق بأبناء بعد، حتى أنه احتار في اختيار اسم لطفله، فاستعان بالمصادفة، إذ وقعت يده على آية من القرآن الكريم هي: «صُنع الله الذي أتقن كل شيء»، فاختار منها الاسم. نشأ صنع الله في عائلة من الطبقة المتوسطة، حيث كان والده موظفاً وكانت والدته ممرضة من أسرة فقيرة، أتى بها والده لرعاية زوجة والده الأولى المشلولة. التحق إبراهيم بكلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1952.[4]

السيرة الذاتية

النشاط السياسي

ولم يكن صنع الله إبراهيم قد بلغ الثانية والعشرين من عمره بعد، حتى ذاق تجربة السجن؛ إذ انضم خلال دراسته الجامعية إلى الحركة الوطنية للتحرر الوطني «حدتو» والحزب الشيوعي، فقبض عليه ضمن حملة لسجن الشيوعيين. وعن هذه التجربة، ذكر صنع الله في إحدى ندواته العامة: "كانت هذه الفترة نقطة تحول في حياتي بعدما انضممت إلى الحزب الشيوعي وحركة حدتو، واعتبرت أن الكتابة بلا أهمية، وما له أهمية وجدوى هو العمل السياسي من أجل تحقيق الديمقراطية". ويضيف: "كانت هذه فترة الزخم الثوري في مصر، سواء في تكوين الحكومة، وتأسيس الاتحاد الاشتراكي، وتكوين المقاومة الشعبية ضد الإنجليز. وقد أرسل الاتحاد الاشتراكي لنا صولاً كبيراً في السن ليدربنا على بعض الأعمال العسكرية لمقاومة الإنجليز. وقتها كنا في حي الدقي، وكان هذا هو الجزء المتعلق بالنشاط في تعاوننا مع الحكومة، بينما كان لنا نشاط آخر خاص بالحزب الشيوعي، فكنا نطبع المنشورات ونوزعها.

في الرابع من أبريل ١٩٦٤ كان جميع المعتقلين قد أُفرج عنهم. ولم يتبقَّ في الواحات سوى مائة واثنَين من المسجونين الشيوعيين تعرَّضوا لمدة شهر وعدة أيام لحالة من الشد والجذب بين الإفراج والبقاء وراء الأسوار. وأخيرًا تم ترحيلهم إلى سجن أسيوط ثم توزيعهم على سجون المحافظات. ووجدتُ نفسي في سجن بني سويف ثم تجمَّعنا مرةً أخرى في سجن مصر ثم أُفرج عنا. وكانت آخر دفعة أُفرج عنها في العاشر من شهر مايو ١٩٦٤ بعد بدء زيارة خروشوف بيوم. ويبدو أنه كان هناك أمرٌ بألا يتبقَّى مسجونٌ واحد داخل الحبس بعد منتصف ليلة ذلك اليوم.

ولا أذكر اليوم المحدَّد الذي تم الإفراج فيه عني، ولعلها كانت الدفعة الأخيرة بسبب الطريقة التي تم بها. إذ عكسَت الصراع الذي كان دائرًا في قمة السلطة بشأن الموقف من الشيوعيين. ولعلها أيضًا كانت حلقة في لعبة الشطرنج الدائرة بين الطرفين؛ فقد أنزلتنا سيارات «الترحيلات» في الطرقات في ساعة متأخرة من الليل بعد التنبيه علينا بتسليم أنفسنا إلى مراكز الشرطة في الصباح لإتمام إجراءات الإفراج وتسجيل العناوين التي ستجرى بها المراقبة القضائية. قضيتُ الليلة مع آخرين من زملائي في منزلٍ لا أذكر صاحبه بحي القلعة. وفي الصباح توجهتُ إلى قسم شرطة شبرا الذي يقيم أحمد القصير في دائرته. وكنتُ قد اتفقتُ معه على أن تجري مراقبتي القضائية في منزله.

رافقني أحد الجنود من مركز الشرطة إلى منزل القصير. استقبلتنا أخته معتذرة عن عدم قبولي بسبب حضور والدَيها من الريف. فعدتُ إلى مركز الشرطة، وفي المساء ظهر محمد الخياط، الذي قضى اليوم في الطواف على مراكز الشرطة، لإخراج المحتجزين من زملائنا، مستغلًّا أمرَين؛ الارتباك السائد في دوائر الشرطة بسبب الإفراج المفاجئ عن أعدادٍ كبيرة من المعتقلين والمسجونين. والثاني بشرته البيضاء وقامته الطويلة وملابسه الكاجوال وحذاؤه الرياضي وكلها توحي بأنه من رجال المخابرات. وبالفعل نجح في الإفراج عني، ولا أدري أين قضيتُ الليلة، وفي الصباح أسلمتُ نفسي إلى مركز شرطة مصر الجديدة وسجَّلتُ نفسي في بيت إحدى قريباتي. وبعد شهرين — في أول يوليو ١٩٦٤ — استأجرتُ غرفةً مفروشة في أحد منازل مصر الجديدة ظل رجال الشرطة يزورونني فيها كل يوم بعد غروب الشمس حتى صدور العفو الشامل في ديسمبر من نفس العام.

خلال ذلك توالت أحداث الفصل الأخير من الدراما التي بدأَت قبل أكثر من خمس سنوات وانتهت بتصفية الحركة الشيوعية المنظَّمة.

كانت هناك اتصالاتٌ مستمرة بين القيادات السياسية داخل المعتقل وبين عبد الناصر وأعوانه في الخارج. وكان يقوم بدور الوساطة مع حدتو عناصرُ يسارية لم تتعرض للاعتقال بسبب ارتباطاتها السابقة بتنظيم الضباط الأحرار (مثل خالد محيي الدين وأحمد فؤاد ويوسف صديق وأحمد حمروش) أو لأنها ابتعدَت في الخمسينيات عن الارتباط التنظيمي بالشيوعيين. أما بالنسبة لمجموعة «الحزب» فقد تردَّد الحديث عن مكاتباتٍ سرية بين محمد حسنين هيكل وإسماعيل صبري عبد الله. وفي كل هذه الاتصالات كان النظام يطلب شيئًا واحدًا هو حل التنظيمات الشيوعية تمامًا، على أن يُتاح لأعضائها العمل السياسي من خلال الاتحاد الاشتراكي، كما ذكر عبد الناصر في حديثه لإريك رولو في صيف عام ١٩٦٣.

ظلَّت هذه المراسلات تدور في تكتُّمٍ شديد أكثر من عام مع التنظيمَين اللذَين تقاربَت مواقفهما. وعندما انتهت مدة سجن شريف حتاتة وصلاح حافظ لم يتم اعتقالهما كالمألوف (بل سُمح للأول بالسفر إلى الجزائر في زيارة شخصية) ثم أُلحقا بتنظيم «طليعة الاشتراكيين» الذي بدأ عبد الناصر في منتصف عام ١٩٦٣ تكوينه داخل «الاتحاد الاشتراكي» كجزء من لعبة شطرنج معقدة ربما شملَت الاستعداد لمواجهة مع عبد الحكيم عامر، وتدعيم دور الزعيم المصري أمام كلٍّ من الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي، والقضاء التام على المنافس المحتمل الذي يجيد العمل في الشارع. لكن الشيوعيين تمسكوا بأنهم لا يمكن أن يتخذوا قرارًا بشأن مصير تنظيماتهم وهم وراء القضبان، أسرى للعزلة والتهديد.

صنع الله إبراهيم عن مصر الناصريه.

وعندما خرج الشيوعيون إلى الحرية ألفَوا أنفسهم معزولين عن جماهيرهم؛ فقد حقَّقَت الثورة للفئات الشعبية كثيرًا من المكاسب وخلقت كثيرًا من فرص العمل، إلى جانب موقفها الصلب من الاستعمار، وكسبت بذلك الغالبية الساحقة من الجماهير. لقد حقَّقَت كل ما دعا إليه الشيوعيون وأكثر، وتم ذلك في ظل شعاراتٍ يسارية وخطابٍ يعبِّر عن الفهم العلمي للاشتراكية.٣ فماذا يريدون الآن؟

انعكس هذا على التنظيم فأُصيب بحالة تميُّع. والتقطَت السلطة بعض قياداته وألحقتها بالتنظيم الطليعي، ثم مارسَت مجموعة من الضغوط — بمساندة بعض اليساريين — وتوعَّدَت بأنها لا تقبل التعامل مع من يعملون تحت الأرض، فإما حل الحزب أو الصدام الفوري والمباشر. كانت هذه هي الأرضية التي دفعَت الكوادر إلى الاقتناع بإنهاء الشكل المستقل لوجودهم والانضمام إلى التنظيم الرسمي «طليعة الاشتراكيين».

ذكر عيد صالح أحد قيادات حدتو في شهادته لرفعت السعيد: «حضر الرفيق خليل (كمال عبد الحليم) اجتماع لجنة منطقة الإسكندرية، وعندما أحَسَّ أنني وصابر زايد وسيد حسن ومحمد يونس ضد فكرة الحل قال إننا لن نحل الحزب في واقع الأمر وإنما سنتظاهر بالحل لنتخلص من الضغوط ومن العناصر المريبة، وإننا سنُعلِن تفويضه كي يتصل هو بالسلطة ليتفاوض معها ثم نقوم نحن بتجميع أنفسنا في سريةٍ تامة ونبني حزبًا جديدًا.» لكن ما حدث كان شيئًا آخر.

انعقد على عَجلٍ كونفرنس لتنظيم حدتو في ١٤ مارس ١٩٦٥ في بيت يوسف صديق بالهرم لمناقشة إنهاء الوجود المستقل، لم يحضُره كثيرٌ من القادة مثل محمد شطا وزكي مراد وأحمد الرفاعي وشريف حتاتة؛ لأنهم كانوا قد صاروا أعضاء في التنظيم الطليعي.

كان المتفق عليه وجوب استمرار الحزب وعدم إنهاء وجوده إلا في حزبٍ واحد مع المجموعة الاشتراكية على أساس الماركسية اللينينية. لكن النقاش جرى حول أن إنهاء الوجود المستقل يمكن أن يساعد على تحقيق تكوين الحزب الواحد. وفي أغرب حادث من نوعه في تاريخ الأحزاب الشيوعية، اتخذ المجتمعون قرارًا بأن يقتصر وجودهم التنظيمي على المسئول السياسي — كمال عبد الحليم — الذي «سيُجسِّد فكرة حدتو بشأن حزبٍ واحد يضم أعضاءها جنبًا إلى جنب أعضاء التنظيم الطليعي.» وما إن أقر المجتمعون القرار بالإجماع حتى أعلن كمال عبد الحليم — وقد تجسَّدَت فيه إرادة حدتو — إلغاء الوجود التنظيمي المستقل. وهُرع إلى مكتب تلغراف ليرسل إلى عبد الناصر برقية تقول: «إن أجمل ما نُقدِّمه لك في هذه المناسبة التاريخية (إعادة انتخابه رئيسًا) أن مندوبي الحزب الشيوعي المصري حدتو في اجتماعهم الذي عقدوه اليوم قد قرَّروا فيه إنهاء وجودهم المستقل إيمانًا منهم بما تدعون إليه من وحدة القوى الاشتراكية في تنظيمٍ سياسي واحد للثورة. وبأن هذا الحزب الواحد للثورة وبقيادتكم هو البديل للتنظيم المستقل.» التوقيع: كمال عبد الحليم. وعقد التنظيم الآخر اجتماعًا مماثلًا في الشهر التالي، قرَّر «إنهاء الشكل المستقل للحزب، وتكليف كافة أعضائه بالتقدُّم كأفراد لطلب عضوية الاتحاد الاشتراكي والنضال من أجل تكوين حزبٍ اشتراكيٍّ واحد يضُم كل القوى الثورية.»

توقَّع الجميع أن يتم تنفيذ الوعود. وجرى الاتفاق بين قادة حدتو وكلٍّ من أحمد حمروش وأحمد فؤاد على أن يدخل جميع أعضائها التنظيم الطليعي. وأُعدَّت كشوفات للدمج التنظيمي بين الطرفَين ثم كانت المفاجأة بعد أسبوع؛ فقد تم إبلاغ ممثلي حدتو أنه حدث لبس، ولن يكون هناك دمج أو غيره، وأن التنظيم الطليعي سيُحدِّد العناصر التي سيضُمها إليه.

وكان التنظيم الطليعي نفسه هيكلًا هشًّا يضم بعض الدكاكين الخاصة؛ واحدة لحمروش وأخرى لهيكل وثالثة لشيخ الأزهر وهكذا. وبينما أُعطيَت عضوية الاتحاد الاشتراكي لعددٍ من المثقَّفين الشيوعيين — استُبعد منهم الشقيقان كمال وإبراهيم عبد الحليم — إلا أنها حُجبَت بشكلٍ مطلق عن العمال. واستمر معتقل القلعة وسجن طرة يستقبلان الشيوعيين تحت دعاوى كثيرةٍ منها «التلسين على النظام»! واعتُقل أيضًا كل من عارض منهم الحل، بل اعتُقل عددٌ من قيادات منظمة الشباب الاشتراكي وأساتذة المعهد العالي للدراسات الاشتراكية سنة ١٩٦٦ بدعوى الترويج للمذهب الماركسي. وفي نفس السنة اعتُقل أيضًا كمال عبد الحليم بسبب اشتراكه في مناقشات حول نتائج قرار إنهاء الوجود المستقل تردَّدَت فيها دعوة إلى استعادته. وساد البلاد جوٌّ بوليسي تسبَّب في نشر السلبية واللامبالاة والعزوف عن النشاط السياسي بين عامة الشعب.

فقد الشيوعيون الرؤية المستقلة ففقدوا البرنامج المستقل، وفقدوا مُبرِّر وجودهم المستقل. لقد تخيَّلوا أن عبد الناصر يحتاج إلى التعاون معهم للاستفادة من خبرتهم في العمل وسط الجماهير ومن تفانيهم، وأنه سيقتنع بإخلاصهم فيتيح لهم الاشتراك في تطوير البلاد وتحويلها إلى الاشتراكية. كان أقصى ما يطمحون إليه أن يكونوا جنودًا باسلين، لكن عبد الناصر لم يرغب في جنود يمكن أن يتحوَّلوا إلى جنرالات. وكما قال رفعت السعيد، فإنهم كشفوا عن سذاجة تامة؛ إذ اعتادوا الفصل الغريب بين الحكم وأجهزته، بين عبد الناصر ووزارة الداخلية.

كانوا مجموعةً من المثاليين استمدُّوا تقديرهم لذواتهم من سُمو الأفكار التي آمنوا بها ومن قدرتهم على التضحية في سبيلها. لم يكونوا انقلابيين، وآمنوا بالجماهير وبقدرتها على صنع الأحداث، وسَعَوا دائمًا إلى الالتحام بها وتبنِّي مطالبها. ولم يجعلوا الوصول إلى السلطة هدفًا لهم ففاجأتهم تحولاتها. وكانت لهم أخطاء لأنهم كانوا بشرًا؛ فقد عانت غالبيتهم من عواقب الجمود النظري والتطرف اليساري. لكنهم ضربوا أمثولة في الإصرار والارتفاع فوق الآلام والمصالح الذاتية لدرجة التخلي عن تنظيماتهم وقبول أدوارٍ ثانوية لمصلحة البلاد. والمضحك أنهم لم يكونوا على هذا المستوى فيما بينهم؛ فلم يتمكَّنوا من الاتحاد؛ إذ عانت قياداتُهم من الانفرادية وتورُّم الذات ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة. وهي على أية حال عيوبٌ عانت منها بقية القوى الوطنية العربية.

على أن أهم ما قاموا به هو أنهم جلبوا المنهج العلمي للخطاب الشوفيني الغوغائي الذي ساد الحركة السياسية قبل أن يطلق عبد الناصر ثورته الاجتماعية. فاستحقُّوا مكانًا إلى جوار الزعيم العظيم الذي حدَّد سقفًا للأهداف الوطنية والاجتماعية لم يعُد من الممكن التنازل عنه؛ ولهذا ستظل الظاهرتان، الناصرية والشيوعية، بالرغم من كل المثالب، من الظواهر المضيئة في تاريخنا الحديث.

لم يعُد أحد إلى عمله إلا بعد جهد، فيما عدا الصحفيين المعتقلين الذين استردوا وظائفهم بعد أقل من شهر من الإفراج. ولم يُسمح للمدرسين وأستاذة الجامعات بالعودة إلى أعمالهم السابقة وأُلحقوا بأعمال إدارية. وكان قرار العودة يُشفع عادةً بتوجيهٍ سري يُحذِّر من تولي الشخص أي مسئوليةٍ قيادية. وظلت غالبية العمال بلا عمل لسنوات.

وكان «مكتب مصر للترجمة والنشر» قد أغلق أبوابه عقب اعتقالنا. وبعد شهور من الإفراج استُدعيتُ مع آخرين لمكتب في قصر عابدين حيث سُئلتُ عن العمل الذي أودُّ الالتحاق به وعن الراتب الذي أتوقَّعه. وخلال ذلك كنتُ قد قرَّرتُ عدم مواصلة الدراسة والتركيز على الكتابة، ونشرتُ في مجلة «المجلة» عدة عروض كتب وترجمات، ثم وجدتُ عملًا في مكتبة الكتب الأجنبية التي كانت تملكها أرملة شهدي مقابل عشرة جنيهات في الشهر. وفي صيف ١٩٦٥ تركتُ العمل لأذهب إلى منطقة السد العالي مع كمال القلش ورءوف مسعد، حيث قضينا ثلاثة شهور في محاولة لتحقيق حُلم الكتابة عن المشروع العظيم.

وبعد شهورٍ أخرى — في ديسمبر ١٩٦٥ — تلقَّيتُ وثيقة تعيينٍ في مصنع أبو زعبل للشركة الأهلية للصناعات المعدنية بوظيفة «كاتب أ» بشهادة «التوجيهية» (الثانوية العامة) فتجاهلتُها (ولعلي قلتُ لنفسي بعد أن قرأتُ مكان المصنع: تاني!) وبعد فترة استُدعيت مع مجموعة ممن لهم علاقة بالإعلام؛ ابتداءً من عامل الطباعة محمد الزبير إلى إبراهيم عبد الحليم للقاء وزيرها عبد القادر حاتم. في مبنى التليفزيون. وبعد عامَين من الإفراج — في أول يوليو ١٩٦٦ — تسلَّمتُ العمل محررًا بوكالة «أنباء الشرق الأوسط» بمكافأةٍ شهرية مقدارها عشرة جنيهات، رفعها فتحي غانم عندما تولَّى رئاستها إلى عشرين ليتمكَّن أيضًا من زيادة مكافأة محمد يوسف الجندي الذي عُيِّن معي والذي تربطه — أي فتحي غانم — علاقةٌ وثيقة بأُسرته.

انقطعَت صلتي التنظيمية بحدتو منذ لحظة الإفراج دون قرار منها أو مني؛ فلم يسعَ أحدٌ منا إلى الآخر. وفيما بعدُ لم أشترك لا في الاتحاد الاشتراكي أو التنظيم الطليعي، ولا حضرتُ أيًّا من ندوات لجنة الفكر والدعوة التي رأسَها كمال رفعت ونائبه محمد نصير. لم يدعُني أحد لشيءٍ من ذلك؛ فلم أكن بذي شأن. كما كانت لي أجندتي الخاصة.

ففي غرفة مصر الجديدة والغرف التي تلَتها كنت أتدبَّر أكبر مغامرة قمتُ بها في حياتي، وهي أن أكون كاتبًا.[5]

تلك الرائحة.. باكورة رواياته

رواية تلك الرائحة. لقراءة وتنزيل الرواية، اضغط على الصورة.

وبعد خروجه من السجن لأول مرة، كتب صنع الله واحدة من أبرز رواياته، وهي تلك الرائحة، التي صودرت بمجرد نشرها. ويكشف أنه حين عرض الرواية على يوسف إدريس، الذي كان صديقاً له رغم فارق السن، كان عنوانها طويلاً، فنصحه إدريس باختصاره إلى "تلك الرائحة"، وهو ما يصفه صنع الله بأنه كان حذفاً بليغًاً.

وعلى خلاف الرأي الشائع بين المبدعين حول استحالة اعتماد الأدب والكتابة كمصدر للرزق، يرى صنع الله أن الكاتب يستطيع تحقيق ذلك. وقال: "أشكال الكتابة وألوانها متعددة ومختلفة، من تأليف الروايات إلى كتابة المقالات والترجمة، وقد كنت أتنقّل بين هذه الألوان الكتابية جميعها".

وبين رواياته العديدة، القانون الفرنسى، شرف، نجمة أغسطس، القبعة والعمامة، بيروت.. بيروت، 1970، وذات، تبقى رواية اللجنة علامة فارقة فى عالمه السردى، فضلاً عن روايته نجمة أغسطس، التى كان يكتبها بالتزامن مع تأليفه كتاب إنسان السد العالي. وعن العملين، يقول صنع الله: "طوال الفترة التي قضيتها في السد العالي أثناء بنائه، كنت أحمل مفكرة أسجّل فيها كل ما تراه عيناي، وكل من أقابله، والمشاهد التي أراها، والأغاني التي أسمعها في الراديو، والكتب التي أقرأها قبل نومي، وقد استعنت بجميع هذه العناصر في كتابة الرواية".

علاقته بعبد الناصر

رواية 1970. لقراءة وتنزيل الرواية، اضغط على الصورة.

ورغم مرور صنع الله إبراهيم بتجربة السجن أكثر من مرة، شأنه شأن كثير من اليساريين والشيوعيين تحديداً، حتى إن الحزب حلّ نفسه على خلفية قرارات التأميم، فإن علاقته بجمال عبد الناصر ظلّت مربكة وتمثل علامة استفهام غير مفهومة، وربما كان لها منطقها الخاص. حملت أعمال صنع الله محاكمة لعصر عبد الناصر، خاصة روايتيه اللجنة وتلك الرائحة، إلا أن هناك حالة إعجاب وتقدير كان يكنّها للزعيم، وهو ما أكدته روايته الأخيرة 1970 الصادرة عام 2019، حيث روى عن العام الذي توفي فيه عبد الناصر، مستعيداً حياته، ومستعيناً بخطاب المخاطب، إذ يخاطبه نِدّاً لند، مسبغاً عليه ملامح تجعل المتلقي يتعاطف معه بل ويقع في غرامه.

أعماله

رواياته

كتبه

قصص للأطفال

ترجمة

  • التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي، جمع وترجمة صنع الله إبراهيم.
  • العدو: جيمس دروت، ترجمة صنع الله إبراهيم.
  • الحمار: گونتر دي بروين، ترجمة صنع الله إبراهيم.


أسلوبه الأدبي

الرواية المعرفية

رواية بيروت.. بيروت التي تصور أحداث من الحرب الأهلية اللبنانية. لقراءة وتنزيل الرواية، اضغط على الصورة.

الرواية المعرفية، ربما يكون أدق توصيف يمكن إطلاقه على أغلبية روايات صنع الله إبراهيم، خاصة روايات: شرف، ونجمة أغسطس، وبيروت.. بيروت، وذات، التي هاجمها بعض النقاد، حتى إن منهم من ذهب إلى القول إنها لا يمكن أن تُصنَّف كسرد روائي لما تحمله من توثيق، مغفلين مصطلح "الرواية المعرفية" كمجال أدبي يجمع بين الحقيقة والتخييل وما يقدمه هذا النوع من إمكانات. ويؤكد الروائي العراقي علي بدر ذلك في حديثه عن رواية بيروت.. بيروت، قائلاً: "قرأت كل ما كتب، وقد اقتربت من وهج تجربته عندما قرأت روايته بيروت.. بيروت، تلك التي جعلتني أعيد اكتشاف المدينة، فأتماهى مع تفاصيلها كلما زرت لبنان: الصحف المترنحة، المقاهي المرهقة، الشوارع التي تحتفظ برائحة البارود والحنين. كنت أعتبرها نصاً وثائقياً يدحر الوهم، مثلما يدحر صنع الله الخيال باللغة الصارمة المدهشة».

التوثيقية

كتاب النيل مآسي. لقراءة وتنزيل الكتاب، اضغط على الصورة.

اعتبر كثيرون أن التوثيقية التي يلجأ إليها صنع الله إبراهيم تضعف بنية السرد في أعماله، لكنه فاجأ قراءه عام 2016 بكتابه النيل مآسي، وهو عمل توثيقي بالكامل، يضم سيناريو فيلم تسجيلي عن نهر النيل. كانت البداية مطلع عام 1994 حين اتصلت به شركة إميج الفرنسية للإنتاج السينمائي، للمشاركة في مشروعها التوثيقي عن عشرة أنهار في العالم، من ضمنها نهر النيل. رحّب صنع الله بالفكرة، واتفق مع الشركة على القيام بجولة استكشافية للنيل والدول المطلة عليه. ويحكي صنع الله: "عندما استفسرت عمن سيتولى الإخراج قالوا إنه أمر قيد البحث، ولم يلبث هذا البحث أن استقر على المخرجة المصرية أسماء البكري، المعروفة بعلاقتها الوثيقة بالجالية الفرنسية في القاهرة".

عكف صنع الله إبراهيم على دراسة المراجع الضرورية لرحلته، وفي مقدمتها مؤلفات محمد عوض ورشدي سعيد وإميل لودڤيگ وآلان مورهيد. وفي صيف ذلك العام، انطلق مع أسماء البكري في رحلة إلى منابع نهر النيل. يصف صنع الله تلك التجربة قائلاً: "كانت الرحلة حافلة بلحظات التوتر؛ عندما عبرنا مستنقعات الحدود الأوغندية وحطّت جيوش ذباب التسي تسي فوق سيارتنا، وعندما انساب قاربنا على سطح بحيرة ڤيكتوريا تحت أنظار التماسيح، وأشرفنا على شلالات ريبون، وكذلك عندما وقفنا على خط الاستواء المرسوم على الأسفلت، والذي كنت أظنه خطاً افتراضياً، وعندما شهدنا التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق في الخرطوم، بل وكدنا ندخل السجن هناك أيضاً".

في كتابه مآسي النيل، المكون من 250 صفحة من القطع المتوسط، مرفقة بملف صور، يوثق صنع الله إبراهيم رحلة النيل التي قام بها، من منبعه في قمة جبال رونزوري المتوجة بالجليد طوال العام، والممتدة فوق خط الاستواء مباشرة على الحدود بين أوغندا وزائير. وعندما يذوب الجليد، تندفع مياه الأمطار في شلالات صاخبة لتغذي عدة بحيرات: بحيرة إدوارد، وبحيرة ألبرت، وبحيرة جورج، وهي المصدر الرئيس لمياه النيل. يحمل عنوان الكتاب النيل مآسي خلاصة الجغرافيا التاريخية للرحلة التي يقطعها النيل من منبعه حتى مصبه في البحر المتوسط. كما يوثق لتاريخ القارة الأفريقية الأسود مع الرجل الأبيض، ذلك الماضي الحافل بأحط أشكال الاستنزاف والنهب الممنهج وإفقار القارة البكر، منذ بدايات حركة الكشوف الجغرافية التي قادتها الپرتغال وإسپانيا وهولندا، وصولاً إلى فرنسا والمملكة المتحدة.[6]

في البداية، روّج الرجل الأبيض لخطاب المهام النبيلة عن تغيير العالم، وحمل الوثنيين الأفارقة على الإيمان واتباع طريق الرب، فكان التاجر والكاهن في طليعة الحملات التي شنّها الأوروپي الغربي على الشعوب الإفريقية. ورغم أن الاستعمار العسكري المباشر قد انحسر عن القارة، فإنه ترك خلفه مئات من مسامير جحا؛ ذيوله أو صنائعه أو وكلاءه في الحكم، بدءًا من صندوق النقد الدولي، مروراً بجنرالات الماس الدموي وإجبار الأطفال على الإدمان لتحويلهم إلى آلات قتل بشرية بلا إحساس أو وعي، وصولاً إلى الحدود المصطنعة التي خلفها الأوروپي وراءه بين القبائل والشعوب الأفريقية.

قال صنع الله: "فجأة نتوقف أمام تل صغير، تعلوه لوحة كتب عليها: هنا دُفن 2827 قتيلاً، ضحايا النزاع الرواندي في أغسطس 1997. كيف تراكم هذا القدر من الحقد في بلد صغير كهذا. الأوروپيون الذين دخلوا رواندا قبل قرابة مائة عام وجدوا مجتمعاً تحكمه طبقة من رعاة الماشية طوال القامة من التوتسي، بينما كان الهوتو — الأكثر سواداً وامتلاءً — يفلحون الأرض. ولم يكن هناك عداء بين الجانبين إلا بعد قدوم النظام الاستعماري، أولًا على يد الألمان، ثم البلجيك الذين احتضنوا التوتسي ودعموهم كعملاء لهم في حكم الهوتو. كما يتناول الكتاب الانقلاب العسكري على الرئيس السوداني جعفر نميري عام 1985، الذي أتاح للبلاد أربع سنوات من حياة ديمقراطية آمنة، عادت خلالها الأحزاب والنقابات التي كان نميري قد حظرها، بل وأضيفت إليها كيانات جديدة، أبرزها أول نقابة من نوعها في العالم، وهي نقابة لمن قُطعت أيديهم في ظل تطبيق نميري للشريعة الإسلامية.

يلفت صنع الله إلى ظهور الجبهة الإسلامية واستيلائها على الحكم، مما أشعل الحرب الأهلية من جديد. وكعادته، استعان بأرشيفه السياسي الإخباري، فوثّق المشهد تحت عنوان "الشارع في الخرطوم"، حيث رصد لافتات تحمل آيات قرآنية إلى جانب إعلانات لكوكاكولا وپپسي، فضلاً عن مظاهر الحجاب الإسلامي، وشرطة الانضباط المخصصة للقبض على السافرات أو من ترتدي البنطال من النساء. كما تناول قضية يهود الفلاشا الإثيوپيين الذين جرى تهجيرهم إلى إسرائيل في عملية سُمّيت عملية موسى، وبلغ عدد من تم نقلهم 30.000 يهودي، وذلك بعد أن تقلصت المعونات السوڤيتية للرئيس منگستو هايله مريم . ويعلّق صنع الله ساخراً: "اكتشف يهود الفلاشا فجأة أن إله موسى أبيض اللون يفضل مؤمنين من نفس اللون"، في إشارة إلى التمييز العنصري الذي يواجهه الفلاشا في إسرائيل.

وفاته

في 13 أغسطس 2025، توفي صنع الله إبراهيم نتيجة فشل في وظائف الجهاز التنفسي وتوقف مفاجئ في عضلة القلب. كان صنع الله قد أُدخل مستشفى معهد ناصر بالقاهرة منذ أيام بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد.[7]


جوائز وتكريمات

نال صنع الله إبراهيم العديدَ من الجوائز العربية البارزة، منها:


المصادر

  1. ^ "Renowned Egyptian novelist Sonallah Ibrahim dies at 88". France 24 (in الإنجليزية). 2025-08-13. Retrieved 2025-08-13.
  2. ^ Ewa Machut-Mendecka (2007). "Literature-Untamed element (A proposal of a typology of the modern Arabic prose)". Studia Arabistyczne i Islamistyczne. 13: 51. Archived from the original on 19 January 2021.
  3. ^ صنع الله إبراهيم.. رحيل أحد رواد التجديد في الرواية العربية (in عربية)
  4. ^ Abdalla F. Hassan, Black Humor in Dark Times, 19 June 2003.
  5. ^ "يوميات الواحات". مصطفى جاويش. 2025-08-14. Retrieved 2025-08-16.
  6. ^ "صنع الله.. الضمير الحى الذى ناضل ليكتب عن مصر الحقيقية". جريدة الدستور. 2025-08-13. Retrieved 2025-08-13.
  7. ^ "«توقف مفاجئ في عضلة القلب».. تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة صنع الله إبراهيم". جريدة المصري اليوم. 2025-08-13. Retrieved 2025-08-13.
  8. ^ "صنع الله إبراهيم". هنداوي. Retrieved 2025-08-13.

المراجع


وصلات خارجية